الصين .. عمالقة التكنولوجيا أساس في تحقيق «الرخاء المشترك»

الصين .. عمالقة التكنولوجيا أساس في تحقيق «الرخاء المشترك»
وصل إجمالي الأموال المستثمرة في شركات الاقتصاد الجديد الذي يركز على القطاعات التكنولوجية 296 مليار دولار.
الصين .. عمالقة التكنولوجيا أساس في تحقيق «الرخاء المشترك»
إعادة هيكلة التوزيع الجغرافي لخريطة التصنيع الصينية بشكل شامل.

حققت بكين نقلة نوعية في مجالات التكنولوجيا، تحديدا "العملاقة" منها، بعد أن استنسخت تجربة وادي السيليكون الأمريكية وتفوقت عليها، لتظهر بدائل جديدة لـ"جوجل" وأمازون وغيرها من كبرى الشركات الأمريكية، ليكون البديل الصيني حاضرا في شركات بايدو وعلي بابا تانسينت وميتوان، وكذلك بايت دانس مالكة تطبيق تيك توك الشهير، وتقدم هذه الشركات خدمات تتفاوت من التسوق الإلكتروني إلى تقديم القروض وإيصال الطلبات إلى المنازل، إلى جانب تقديم خدمات النقل بسيارات الأجرة، لكن منذ نحو عام قاد الرئيس الصيني شي جين بينج حملة ضد عمالقة التكنولوجيا في البلاد لتحقيق عدد من الأهداف أبرزها تجنب أزمات الشركات الكبرى، التي شهدتها الصين أخيرا.
تسببت الشركات الكبرى في قطاعي العقارات والنقل عبر القطارات أزمات اقتصادية كبيرة، استدعت التدخل الحكومي لتجاوز هذه الأزمات، التي لا يزال أثرها مستمرا حتى يومنا هذا، فالأزمة الكبرى كانت بفعل شركة العقارات الصينية إيفرجراند، التي تبلغ قيمتها مليارات الدولارات، وأصابها العجز عن سداد ديونها، لكن ولتدارك الأزمة كان أثر التدخل الحكومي بمنح القروض للتخفيف من تبعات هذه الأزمة وحدتها، إلا أن هذه الأزمة ليست الوحيدة في الصين، فالأزمة الأخرى، التي دفعت الحكومة للتدخل في قطاع التكنولوجيا، أزمة قطاع القطارات، تحديدا شركة القطارات الصينية China Railway، التي قد تبلغ قيمة ديونها ثلاثة أضعاف ديون عملاق العقارات الصيني إيفرجراند.
بدأت السلطات الصينية شن حملة واسعة النطاق لتغيير النموذج السائد لدى عمالقة الشركات العملاقة، حيث بدأت هذه الحملة فجأة بعرقلة إدراج مجموعة "آنت" في بورصة هونج كونج، وهي صفقة كان متوقعا أن تصل قيمتها إلى 37 مليار دولار، وتتكون هذه الحملة من إعلان سلسلة من القواعد الجديدة والغرامات الباهظة على شركات التكنولوجيا الكبرى، تسببت في خسارتها نحو تريليوني دولار من أصولها إلى الآن، وبدأت الحملة تعديل الصين قانون مكافحة الاحتكار، تبعه إقرار البرلمان الصيني، لقوانين أمن البيانات وحماية المعلومات الشخصية.
روجت وسائل الإعلام الصينية أن الحملة جاءت كجزء من دفع الرئيس الصيني باتجاه تحقيق "الرخاء المشترك" عبر إجراءات تهدف إلى إعادة توزيع الدخل وتركيز مسار التنمية على المناطق المهمشة، مع الرؤى الشائعة حول الطبيعة الماركسية - اللينينية لحكم شي جين بينج الاشتراكي، ولهذا الانطباع وجاهة، فقد ذكر مصطلح "الرخاء المشترك" للمرة الأولى من قبل الزعيم ماو تسي تونغ في خمسينيات القرن الماضي، وعزز موقعه في سياساته لاحقا رائد الانفتاح الاقتصادي الصيني دنغ تشاوبينغ.
كما تسببت الممارسات الاحتكارية لعمالقة التكنولوجيا الصينية لأعوام في قتل التنافسية، والاستحواذ على الشركات، التي تشكل تهديدا لحصتها في السوق، كما أصبحت هذه الشركات تتمتع بنفوذ كبير على قطاعات الإعلانات التكنولوجية وبيانات عملائها، إلى جانب نفوذ قادتها على الصعيد السياسي، وعلى رأسهم جاك ما، مؤسس موقع علي بابا، الذي تجاوز دوره بأنه مالك لموقع إلكتروني وإنما لرجل متنفذ يفرض على الدولة ما يريده.
لم تتوقف الحملة عند هذه الحدود، لتمتد إلى قطاعات أخرى تستخدم فيها الخدمات السيبرانية بشكل مكثف كالتعليم الخاص والعملات الرقمية والألعاب الإلكترونية، في تقويض الممارسات غير التنافسية من قبل تلك الشركات، خصوصا تجاه الشركات الناشئة، وتقليم النفوذ السياسي والاقتصادي الهائل لهذه الشركات، وهو ما يطلق عليه الرئيس الصيني "التوسع غير المنظم لرؤوس الأموال"، إلى جانب سعي بكين إلى ضبط قطاع أمن البيانات، وفهم هذا التوجه بوصفه إنهاء للنموذج الاقتصادي الداعم للنمو فوق كل شيء، من أجل الانتقال إلى نموذج آخر قائم على رأسمالية الدولة.
ولتدعيم السياسات الحكومية ولتطبيق أهدافها بالانتقال من نموذج التكنولوجيا السطحية إلى التكنولوجيا العميقة، أقرت الحكومة الصينية الخطة الخمسية في 2020، التي ركزت من خلالها قيادة الحزب الشيوعي الصيني على تحويل الصين إلى "الاكتفاء الذاتي" في قطاع التكنولوجيا، وبتتبع الشركات المستهدفة بشكل أساسي من الحملة، يمكن فهم المنهجية الصينية المتعلقة برؤية قيادة الحزب الشيوعي النهائية، فقطاع التكنولوجيا مقسم وفقا لهذه الرؤية، إلى قسمين، شركات التسوق الرقمي والترفيه ومواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما تعرف بشركات "التكنولوجيا السطحية"، وشركات صناعة الروبوتات والحوسبة السحابية والرقائق والتكنولوجيا النظيفة والسيارات ذاتية القيادة، وهي ما تعرف بشركات "التكنولوجيا العميقة".
أظهرت الحملة أن 95 في المائة من الشركات المستهدفة تنتمي إلى المجموعة الأولى، بينما ينتمي 5 في المائة فقط من الشركات المستهدفة ضمن الحملة إلى المجموعة الثانية، وينعكس هذا الاتجاه في الحجم الكلي لتمويل شركات التكنولوجيا الناشئة في 2021، فقد وصل إجمالي الأموال المستثمرة في شركات الاقتصاد الجديد، الذي يركز على القطاعات التكنولوجية المهمة للحكومة، إلى 1.89 تريليون يوان "296 مليار دولار"، 143 مليار يوان من هذا المبلغ ركزت على شركات الرقائق الإلكترونية، في المقابل تراجعت الاستثمارات في شركات التجارة الإلكترونية بمقدار 40 في المائة عن مستوياتها القياسية في 2014، وفي 2020 فقط، تم تأسيس 22 ألف شركة رقائق إلكترونية، و35 ألف شركة حوسبة سحابية، و172 ألف شركة ناشئة تعمل في مجال الذكاء الاصطناعي.
إلى ذلك، حذرت الغرفة التجارية الأمريكية في شباط (فبراير) الماضي من هذا التوجه الصيني المستند إلى نموذج حكم سلطوي ساعد بكين على اختصار الوقت، والحد من النقاشات السياسية حول التوجه الجديد، وهو ما يتوقع أن يستغرق أعواما إذا ما قررت الولايات المتحدة تبني النهج نفسه، والحد من هيمنة عمالقة التكنولوجيا الأمريكيين على السوق، وقد أكد تقرير للغرفة أن الصين تتجه إلى تحقيق مزايا اقتصادية مقارنة بالولايات المتحدة من خلال إعادة توجيه رأس المال والمواهب بعيدا عن وسائل الإعلام الاجتماعية وشركات تكنولوجيا الاقتصاد الرقمي الموجهة نحو المستهلك، إلى صناعات التكنولوجيا الاستراتيجية مثل أشباه الموصلات والإلكترونيات والبطاريات والتكنولوجيا الحيوية والبنية التحتية للاتصالات، كما حذر خبراء غربيون من أن هذه الحملة قد لا تحول الصين إلى قوة عظمى في الاقتصاد والتكنولوجيا فقط، إنما أيضا القوة الجيوسياسية والعسكرية الأكبر في العالم.
في السياق ذاته، بدأت الآثار الاقتصادية للحملة في الظهور، وتتسق هذه الآثار مع حملة "الرخاء المشترك"، ولا تتضح فقط من خلال تحقيق مزيد من التوازن عبر نقل بعض رؤوس الأموال من عمالقة التكنولوجيا إلى طبقة المستهلكين والعمال، كما عملت الحملة على نقل بعض الثروة من المدن الساحلية الغنية إلى المدن الداخلية الأكثر فقرا، من خلال تحويلها إلى بؤر لصناعة التكنولوجيا الاستراتيجية، إضافة إلى بدء آلاف شركات التكنولوجيا الجديدة، المدعومة من الدولة، الظهور في مدن وسط الصين وحزام الصدأ الشمالي، في انعكاس مباشر لمدى قدرة قادة الحزب الشيوعي على التحكم في حركة رؤوس الأموال، وإعادة هيكلة التوزيع الجغرافي لخريطة التصنيع الصينية بشكل شامل، ويكمن الهدف النهائي في توطين هذا النوع من التكنولوجيا الحساسة، التي لا تزال الصين متأخرة عن الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين في إنتاجها.

الأكثر قراءة