سلاسل الإمداد .. أزمة عالمية أشعل فتيلها الفرنسي نابليون
انفجر غاضبا، "أهكذا تكون نهاية الأبطال، يهددون داخل قصورهم ووسط رجالهم، ومن من؟ رجل لم يمسك سلاحا قط؟". كلمات رددها نابليون بونابرت وهو يستمع لحديث مستشار ملك النمسا مترنيخ الذي أكد أن هيمنة فرنسا على القارة العجوز لا يمكن أن تستمر، وسط رفض الأول عقد أي هدنة. وفور انتهاء اللقاء العاصف بين جدران الإليزيه قرر أول إمبراطور فرنسي فرض حصار اقتصادي عرف بالقاري في 1806، وكان أبرز ضحاياه البريطانيون الذين حرموا من منتجات باريس ومنعوا من تصدير بضائعهم لأي أرض تخضع لحاكم الحرب وسيدها.
لكن المواطنين الأوروبيين آنذاك كانوا أسعد حالا من الآن، حيث ضعف المراقبة الحدودية وحيل المهربين في القرن الـ19 جعلت من ندرة السلع مجرد قرارات على الورق، وهو ما يتمناه الآن ألفونسو، أحد مزارعي جنوب إسبانيا الذي خرج مع آخرين في مظاهرات ضد حكومته، ليس فقط لأن الحصول على المخبوزات بالنسبة إليه صار حلما، لكن لأن أسعار الأسمدة الزراعية ارتفعت 300 في المائة، وهو ما يهدد مصدر رزقه الوحيد كما أوضح في تقرير لـ"يورو ويكلي نيوز"، وبالطبع سمع ألفونسو تبريرات حكومته وربما مر على أذنيه مصطلح سلاسل الإمداد كسبب رئيس في الغلاء.
يقصد بسلاسل الإمداد هي عمليات التنسيق التنظيمي والاستراتيجي التي تعني وصول المنتج إلى المستهلك، مرورا بعملية الزراعة أو الإنتاج والتهيئة والنقل من مكان الإنتاج إلى الميناء ثم إلى أي دولة أو حتى داخل الدولة نفسها حتى تصل إلى المواطن في أي مكان في العالم في النهاية. حتى بدايات القرن الماضي لم تكن سلاسل الإمداد بتلك القوة التي عليها الآن، إذ إن دولا كثيرة كانت تفضل الاكتفاء بما تملك في ظل وسائل شحن مكلفة واتفاقيات محدودة، لكن كل ذلك تغير مع عصر العولمة وشعار أن العالم قرية صغيرة، إذ إن التقدم جعل السلعة التي تنتج في الصين يمكنها أن تدخل خط إنتاج أمريكي عصرا وتكون في يد مستهلك إفريقي ليلا، وهكذا دار العالم في هذا الفلك وباتت الدول غير مسؤولة بالكامل عما تستهلكه، ورغم أن هذا ملمح حضاري يجعل التعاون العالمي يصل إلى ثقافات وجماهير متعددة، لم تلفت إلى مشاحنات الدول في توجه اقتصادي مستقل، لكن ما لم يحسب الخبراء حسابه أن تلك السلاسل تعني أن أي عطل في دولة أقصى الشرق سيدفع ضريبتها مواطن في الغرب والعكس صحيح.
هذا بالضبط ما حدث حين ظهر وباء كورونا في كانون الثاني (يناير) 2020 وبدأت الدول تغلق حدودها لمواجهة الجائحة، إذ شعر المواطنون أن ليس كل ما اعتادوا عليه سيجدونه، وإن كان الضرر لم يكن كبيرا في وفرة السلع نظرا إلى وجود مخزون استراتيجي عند كل دولة، لكن بدت التأثيرات في نهاية 2021 حين أصدر البنك الدولي تقريره موضحا أن تراجع الإنتاج العالمي في العام نفسه وصل إلى 5.7 في المائة، وكان الأمر في 2022 أن تحسنت الأحوال قليلا بعد أن فرغت مخازن المصانع وأبطأت عدة شركات في إنتاجها، فيما تحولت بعض خطوط الإنتاج إلى تصنيع الرقائق الإلكترونية بالتزامن مع انتشار الأجهزة المحمولة واللوحية، والسبب يبدو واضحا فالعمل والدراسة من المنزل عن بعد.
لكن 2022 لم يكن يحمل سوى مزيد من الأعباء، بعد العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا في 24 شباط (فبراير) الماضي، ليعاني العالم أزمتين، قلة إنتاج عامة تسببت فيها كورونا، بجانب محاربة دولتين لبعضهما وهما يصدران ما نسبته من القمح 32 في المائة من إجمالي الإنتاج العالمي، ويكفي أن موسكو مدت أوروبا العام الماضي بـ40 في المائة من الغاز و25 في المائة من النفط. وحاليا يصر الرئيس الروسي بوتين على التعامل بـ"الروبل" لمن يرغب في شراء الطاقة من حقوله الغنية، في ردة فعل عكسية تجاه تجميد الأرصدة الروسية وملاحقة الأوليجارشيون الأثرياء والتهديد بفرض عقوبات تماثل إغلاق فروع كبرى العلامات التجارية مثل "ماكدونالدز وكوكاكولا وستاربكس وأديداس".
قرار الروس شراء محصولهم من الغاز والنفط بالروبل، قوبل بانقسام داخل البرلمان الأوروبي حيث تحفظت برلين على مقاطعة الطاقة الروسية وتؤيد باريس وكوبنهاجن وتعارض بروكسل فيينا، ولم يكتف قصر الكرملين بذلك فحسب، بل حاصر الموانئ الأوكرانية ومنع تصدير القمح حتى تستجاب شروطه أمام كييف، وهذا ما أدى إلى نقص المعروض في بعض الأسواق وارتفاع التكلفة في أسواق أخرى، ومن بين أبرز المتضررين المواطن حول العالم الذي بات مهددا يوميا في رغيف الخبز، فضلا عن بقية السلع الأخرى التي تزداد سعرها ارتفاعا أمام التضخم ورفع البنك الفيدرالي الأمريكي نسبة الفائدة مع انخفاض قيمة بعض العملات أخرها اليورو.
ولعل نظرة واحدة على الأرقام توضح أكثر ما يحدث حاليا، ففي حزيران (يونيو) الماضي تقدم شركة ريفلون العملاقة في مجال مستحضرات التجميل بطلب إفلاس نتيجة اضطرابات سلاسل التوريد التي أدت إلى شل حركة البيع، في الوقت الذي تضطر الشركة فيه إلى الدفع نقدا في الموانئ البحرية لتسريع عمليات الشحن وتفريغ الحاويات، فلن تغادر سفينة الشحن الميناء صوب وجهتها الجديدة حتى تمتلئ عن بكرة أبيها، وكل دقيقة انتظار تقضيها السفينة على المياه يدفع ثمن أجرتها وصيانتها وعمالتها المواطن أيا كانت جنسيته. أيضا شركة أخرى أمريكية عملاقة مثل تسلا التي تنتج السيارات الكهربائية فقد أعلن صاحبها إيلون ماسك أن سلاسل الإمداد تؤثر حتما في صناعته وتتسبب في خسارته مليارات الدولارات شهريا، كذلك الأمر مع فولكس فاجن الألمانية إذ أوضحت أن مبيعاتها من السيارات مقارنة بالعامة الماضي حتى الآن تراجعت بنحو الثلث، علما بأن العام الماضي لم يكن الأفضل بسبب جائحة كورونا.
عالميا ارتفعت الأسعار بنسبة سنوية قدرها 8.6 في المائة حتى أيار (مايو) الماضي، وهي أسرع وتيرة في الأربعة عقود الماضية، بجانب ارتفاع أسعار النفط العالمية أكثر من 80 في المائة للبرميل الواحد بسبب تحالف "أوبك +" وهو الأعلى منذ أعوام، ولتفادي تلك الأزمة عقدت المؤسسات المالية العالمية مؤتمرات كثيرة حاولت فيها توفير مظلة حماية لمواطنيها من خطر يبدو أنه سيستمر، ولم يكن الحل سوى فيما يسمى "مجموعة دعم الأصدقاء" كما أوضحت جانيت يلين، وزيرة الخزانة الأمريكية، التي تقصد بالمصطلح استخدام العلاقات القوية بين عدة دول لتأمين الاحتياجات المهمة بصرف النظر عن أي ظروف خارجية، إضافة إلى خفض الاعتماد على إمدادات المدخلات المهمة المقبلة من الدول "العدوة"، لكن حتى ذلك لا يحل الأزمة ففي النهاية كل دولة ستحمى مواطنيها أولا.
في وسط تلك الفوضى التجارية، تدق بكين ناقوس الخطر بين الفينة والأخرى، حيث رفعت شنغهاي الواقعة شرق الصين قيود إغلاق صارمة استمرت لشهرين منذ مطلع حزيران (يونيو)، بينما تستمر في فرض قيود صارمة جديدة وتغلق المباني والمجمعات كلما ظهرت موجة تفش جديدة لسلالة أوميكرون المتحور، في سبيل صفر - كوفيد بحسب تشاو داندان نائب مدير لجنة الصحة في المدينة، لكن وسائل الإعلام الأمريكية تتهم الصين بتعمدها إغلاق ميناء شنغهاي الأضخم عالميا الذي يضمن 29 مليون حاوية، والدليل تقرير "بروجيكت 44" الذي يشير إلى أن تأخيرات الشحن بين الصين والموانئ الأمريكية والأوروبية تضاعفت أربع مرات منذ أواخر آذار (مارس) الفائت بسبب إغلاقات شنغهاي المتتابعة، وهو ما يشكل ضغطا هائلا على سلاسل التوريد العالمية، والسؤال هنا، هل استعدت الشعوب للتخلي عن اهتماماتها في سبيل الاحتياجات، اللحوم والخبز مقابل السيارة والآيفون الجديد؟.