التكامل الأوروبي في عالم مفكك .. فرص وتحديات

التكامل الأوروبي في عالم مفكك .. فرص وتحديات

إن الاستقرار العالمي هو من الأصول الهشة كما أظهرت أخيرا الحرب في أوكرانيا والتوترات المتصاعدة حول تايوان، وفي عالم يدمر نفسه فإن على الاتحاد الأوروبي أن يجعل الثقة بالمشروع الأوروبي على قمة أولوياته الاستراتيجية، علما بأنه في سياق طموحات عضوية الاتحاد الأوروبي التي لم تتحقق، فإن من الممكن أن تستغل القوى الأخرى إحباط المواطنين، كما نرى الآن في منطقة غرب البلقان، حيث تسعى روسيا لإعادة التأكيد على نفوذها. يجب على الاتحاد الأوروبي أكثر من أي وقت مضى أن يظهر أنه شريك مفيد ويمكن التعويل عليه لجميع الدول الأوروبية، بغض النظر عن علاقتها الرسمية مع الاتحاد الأوروبي.
بحسب ما يرصده تقرير خافيير سولانا، الممثل الأعلى السابق للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، والأمين العام لحلف شمال الأطلسي، ووزير خارجية إسبانيا، ورئيس EsadeGeo - مركز الاقتصاد العالمي والجغرافيا السياسية والزميل المتميز في معهد بروكينجز.
إذ تشهد أوروبا - وفقا لسولانا - حاليا فترة من المفارقات، حيث على الرغم من تعاقب الاضطرابات الشديدة فلقد شهد التكامل الأوروبي أخيرا تسارعا تاريخيا، ومنذ أن ضربت الجائحة أوروبا قبل عامين ونصف سعت جميع قرارات الاتحاد الأوروبي عمليا إلى تعزيز التكامل السياسي للدول الأعضاء.
تاريخيا، فإن نجاح التكامل الأوروبي وفر فرصة وتحديا فيما يتعلق بتوسيع الاتحاد الأوروبي من أجل ضم أعضاء جدد. يجب على الاتحاد الأوروبي الاستمرار في التكامل، علما بأن مهمته تمتد إلى كامل القارة الأوروبية، لكن حتى يضمن استمراريته، يجب على الاتحاد الأوروبي أن يعرض على المرشحين للعضوية أشكالا جديدة من المشاركة تساعد على تعزيز الشعور بالانتماء للمشروع الأوروبي.
وفي واقع الأمر فإن التكامل السياسي الداخلي للاتحاد الأوروبي وتوسيعه ليشمل دولا أوروبية أخرى هما تاريخيا عمليتان لا يمكن فصلهما عن بعضهما بعضا، وفي كلمة في بداية هذا القرن في جامعة هومبولت في برلين قام يوشكا فيشر وزير الخارجية ونائب المستشار الألماني آنذاك بشرح الأهمية التاريخية للتكامل الأوروبي وصعوبته، حيث أشار إلى "أن الحاجة إلى تنظيم هاتين العمليتين (التكامل السياسي للاتحاد الأوروبي وتوسعته) بشكل متواز هي بلا شك أكبر تحد يواجه الاتحاد الأوروبي منذ نشأته، لكن لا يوجد جيل يستطيع اختيار التحديات التي يفرضها التاريخ".
لن يتراجع الاتحاد الأوروبي على الإطلاق عن التزامه طويل الأمد بتوسيع مشروع التكامل الخاص به ليشمل الدول التي تظهر رغبة واضحة في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. لقد تم منح أوكرانيا ومولدوفا - اللتين تم دفعهما للتوجه نحو الاتحاد الأوروبي بسبب حرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التي لا معنى لها - وضعية المرشح في يونيو، كما أن قرار الاتحاد الأوروبي الأخير للبدء في المفاوضات الرسمية لمرحلة ما قبل الانضمام بالنسبة إلى ألبانيا ومقدونيا الشمالية قد تؤدي إلى دينامية إيجابية تعزز من علاقات دول غرب البلقان مع المؤسسات الأوروبية.
إن أوكرانيا هي جزء من أوروبا، حيث أظهر مواطنوها مرارا وتكرارا رغبتهم القوية في أن يصبحوا جزءا من الاتحاد الأوروبي، ولو أوفت أوكرانيا بمتطلبات دخول هذا التكتل، فلا يوجد أي سبب يمنع من انضمامها، وحتى يتم تسهيل عملية إدماج أوكرانيا، فإن على الاتحاد الأوروبي المساعدة على عملية إعادة البناء العملية والسياسية من ويلات حرب بوتين. يقدر الباحثون في كلية كييف للاقتصاد أن فقط إعادة بناء البنية التحتية الفعلية لأوكرانيا ستكلف على الأقل مائة مليار دولار، حيث من الواضح أن إعادة البناء يجب أن تكون ضمن جهد جماعي.
أما اليوم ومع وجود حرب على حدود الاتحاد الأوروبي فإن كل الخيارات لتعميق التكامل السياسي لأوروبا - وليس فقط توسعة الاتحاد - يجب أن تكون مطروحة على الطاولة. لقد اقترح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على سبيل المثال "مجتمعا سياسيا أوروبيا"، لكن بغض النظر عن اسم الهيكل الجديد، يجب أن يوفر مثل هذا الهيكل فرصا للتعاون مع الاتحاد الأوروبي، ما يجعل التكامل حقيقة ملموسة للدول المرشحة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
إن تحقيق ذلك سيتطلب من الاتحاد الأوروبي تعزيز التعاون مع الدول المرشحة للانضمام إليه، وبينما النهج الثنائي الحالي للاتحاد فيما يتعلق بالمرشحين للانضمام إليه يتيح إجراء تقييم منفصل لآفاق عضوية كل دولة، فإنه يخاطر أيضا بتحويل عملية توسيع الاتحاد إلى عملية تنافسية في الغالب.
وعليه يجب على الاتحاد الأوروبي أن يعرض على الدول من غير الأعضاء نموذجا إقليميا طموحا وواقعيا للتكامل. إن الوعود بالعضوية الحتمية والمفاوضات الطويلة التي تسبقها ستضر بالاتحاد لو أدت إلى إصابة حكومات وشعوب الدول المرشحة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي بالإحباط. لقد اضطرت مقدونيا الشمالية على سبيل المثال إلى الانتظار لفترة طويلة جدا "17 عاما" بين منحها وضعية المرشح وتلقي الضوء الأخضر لبدء مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
إن الإقرار بإمكانية وجود صيغ أخرى إلى جانب توسيع الاتحاد من أجل تحقيق التكامل ضمن القارة الأوروبية لا يعني أن هذه السياسة لم تنجح، فبدون توسيع الاتحاد الأوروبي في 2004 ليشمل أوروبا الشرقية، لما كان ذلك التكتل هو القوة التجارية والتنظيمية التي نراها اليوم. لقد جعلت عمليات التوسيع المتتالية الاتحاد الأوروبي واحدا من أكبر الاقتصادات في العالم، حيث يمثل نحو 16 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي "من حيث تعادل القوة الشرائية".
لكن في الحالات التي يكون فيها توسيع الاتحاد الأوروبي من أجل توسيع منطقة الاستقرار الأوروبي غير ممكنة لأسباب جغرافية أو سياسية، كان السؤال الأساسي لصانعي السياسة الأوروبيين هو: ما الأدوات البديلة التي يمكنهم استخدامها؟ فمنذ أن أسس ويلي برانت مستشار ألمانيا الغربية سياسة الانفتاح على الشرق كأساس للتقارب بين الغرب والكتلة السوفياتية في أواخر الستينيات، كان إنشاء روابط من الاعتماد الاقتصادي المتبادل هو الحل الرئيس.
لكن مثل هذه الاستراتيجية تفترض مسبقا وجود لاعبين يتمتعون بروح المسؤولية من المنظور الجيوسياسي. والدرس الرئيس من حرب أوكرانيا هو أن روسيا حاليا ليست لاعبا يتمتع بروح المسؤولية. إن من الواضح أن الاعتماد الاقتصادي المتبادل لا يسهم في الاستقرار، إذا نتجت عنه تبعيات غير متكافئة تترك أحد الأطراف عرضة للخطر في أوقات الصراع. سيتعين على أوروبا التوقف عن الشعور بالضعف كما يجب أن يتغير كثير في الكرملين قبل أن ينظر الاتحاد الأوروبي في أي علاقة مستقبلية مع روسيا.
إن النجاح الذي لا يمكن إنكاره للاتحاد الأوروبي في الدفع قدما بالتكامل الإقليمي لا يعني أن هذا التكامل قد أصبح مشروعا مكتملا أو أن له نهاية محددة سلفا، لكن يجب على الأوروبيين البقاء على هذا المسار نفسه، وهذا يعني اليوم أن على الاتحاد الأوروبي السعي إلى تحقيق مصالحه الاستراتيجية مع الأخذ في الحسبان الطموحات والآفاق الأوروبية لجميع دول الجوار القريبة منه.

الأكثر قراءة