جورباتشوف .. زعيم غير العالم ولم يغير روسيا

جورباتشوف .. زعيم غير العالم ولم يغير روسيا
جورباتشوف .. زعيم غير العالم ولم يغير روسيا

رحل ميخائيل جورباتشوف الزعيم السوفياتي، الأسبوع الماضي، في صمت مطبق، فلا حداد وطنيا ولا مراسم جنازة شعبية، ولا حتى تمثيلية رسمية، على مستوى الدوائر العليا للحكومة الروسية، تليق بمقام رجل غير مسار التاريخ، وصنع الأحداث في القرن الـ20، بمساهمته في إعادة تشكيل العالم ورسم خريطته، خلال آخر عقدين من القرن الماضي.
كان الانشغال بأطوار الحرب مبرر حكومة بوتين لحرمان قائد كبير، نال جائزة نوبل للسلام عام 1990، من جنازة رسمية للدولة، على غرار تلك التي نالها الرئيس بوريس يلتسن، خلفه في الحكم، الذي عبد الطريق أمام فلاديمير بوتين نحو الكرملين 1999. يذكر أن هذا الأخير كان في صدر جنازة مهيبة، بمشاركة قيادات وازنة من دول العالم، عدت أول جنازة دينية لقيادي رأس الدولة في روسيا، منذ 1894، تاريخ رحيل القيصر ألكسندر الثالث.
وبحسب مراقبين حضرت الحرب كغطاء للتورية على رغبة جماعية في روسيا على جعل رجل التناقضات - المتهم داخليا، بإحداث أكبر كارثة جيوسياسية في القرن الـ20، حسب وصف بوتين لانهيار الاتحاد السوفياتي، والمحترم خارجيا، لقدرته على إنهاء أربعة عقود من الحرب الباردة دون إطلاق رصاصة واحدة - غير مؤثر في تاريخ الدولة الروسية. وكانت عبارات رسالة تعزية الرئيس بوتين، التي كتبت بلهجة حيادية، "ترك تأثيرا كبيرا في تاريخ العالم" و"يجتهد لعرض حلوله الخاصة للمشكلات" خير مثال على توجه إقصائي، يتهم الراحل بخيانة الشيوعية، ما تسبب في انهيار الاتحاد السوفياتي.
كانت الأعوام الخمسة "1985 - 1991" التي قضاها جورباتشوف في قيادة الاتحاد، كافية لتقلبه بين نقيضين، من زعيم أممي ملأ الدنيا، وشغل الشيوعيين لحظة تولي الحكم، إلى بطل قصة أسطورية، عن اختراق استخباراتي أمريكي، حولته إلى عميل للغرب، ومتآمر، غايته تدمير الاتحاد السوفياتي. وزادت مشاركته في إعلان تجاري تلفزيوني، من أجل الدعاية لمأكولات سلسلة مطاعم أمريكية "بيتزا هات"، 1997، من انتشار وحتى اقتناع الروسيين بالاتهامات. فقد بات سؤال واحد يتردد على الألسنة: هل يعقل أن يقبض أمين عام الحزب الشيوعي السوفياتي أموالا نظير الترويج لأشهر شركات العولمة الرأسمالية؟
بعيدا عن التخوين، يدرك قارئ سيرة الزعيم أنه حاول بث الروح في الاتحاد السوفياتي، وإحياء الاشتراكية، وذلك باعتماد مفهومي البرويسترويكا "إعادة الهيكلة" والجلاسنوست "الشفافية". لكن تلك المساعي لم تحقق أي نتيجة، فأيقن أن عملية الإنقاذ باتت شبه مستحيلة، ولا سيما بعد انهيار جدار برلين 1989. ولم يبق أمامه سوى توقيع "قرار الاستسلام"، بعد صراع دام أربعة عقود، ونيل لقب الزعيم الأخير، على غرار زعماء سياسيين حاولوا جاهدين الإصلاح، لكنهم عجزوا عن تدارك وضع تعدى الحدود، ما يجعل علاقتهم بالسقوط علاقة تزامن لا علاقة سبيبة.
انطلق أفول الاتحاد السوفياتي، حتى قبل تولي جورباتشوف السلطة، مع الإنهاك الحاد في السباق نحو التسلح، خاصة بعد قرار إدارة الرئيس ريجان رفع الميزانية العسكرية إلى 292 مليار دولار، لأن السعي إلى المنافسة يضمن إفراغ الخزينة السوفياتية، التي تأثرت بالانخفاض الحاد في أسعار النفط والغاز. أدرك الزعيم لحظة تولي القيادة أن إحياء عملاق، ينتج الصواريخ والسلاح النووي، ستكون عديمة الفائدة، ما دام شعبه يصطف طويلا في طوابير لشراء الخبز. لذا لا يتردد في مواجهة كل من يتهمه بتفكيك الاتحاد بعبارته المشهورة "إن لم أكن أنا فمن؟ وإن لم يكن الآن فمتى؟".
لم يستطع الرجل - الذي حارب حتى آخر رمق، كما يقول، وفعل كل ما في وسعه فعله، لكن كثيرا من الأحداث تقع في وقت واحد، ولعب المتشددون دورا في إضعاف موقفه - وقف تداعي الاتحاد السوفياتي. لكنه استطاع، بجدارة، تشكيل جزء كبير من خريطة العالم مجددا، بمنح الجمهوريات السوفياتية السابقة الاستقلال "دول البلطيق والجمهوريات الإسلامية في آسيا"، علاوة على تحرر عدد من دول أوروبا الشرقية "بلغاريا، التشيك، سلوفاكيا، هنجاريا...".
إنجازات حولته إلى بطل في أوروبا، ما حدا بأنجيلا ميركل، المستشارة السابقة لألمانيا، إلى تأكيد أن الرئيس الأخير للحزب الشيوعي السوفياتي "كتب تاريخ العالم"، فدوره جبار في إعادة توحيد بلادها، ولا سميا بعد قراره وقف الدعم الممنوح لنخب ألمانيا الشرقية الحاكمة، ما أدى إلى انهيار جدار برلين. أما داخل روسيا، فهو منبوذ بلا شعبية تذكر بين الروسيين. لكنه غير مهتم إطلاقا بذلك، فحسب جورباتشوف، يبقى "التاريخ متقلب المزاج، لا تخف، أؤكد لك أن الأمر بحاجة إلى وقت وكثير من الصبر والمهارة".
كان الرجل وفيا لهذه الفكرة مع تقدمه في العمر، فاعتراض صحف روسية مقربة من النظام في موسكو على نشر مقالاته، بذريعة أن زمن جورباتشوف انتهى، فأجابهم "إنها البداية فحسب"، واتهامه من قبل أصوات ناقمة عليه في روسيا بالخضوع لزوجته الأوكرانية الأصل، لم يحده عن مبادئه، "اتهموني بالخضوع لزوجتي، ولم أرفض ذلك الاتهام بل إنني أيدته"، وعن الخطأ الذي يرغب في تكراره، يقول "كنت واثقا جدا بنفسي، وهذه الثقة الزائدة تحولت إلى غرور، فالجميع يقولون: أخطاء جورباتشوف، ارحموني، لا يوجد إنسان يتمتع بالموهبة والقدرات الكاملة.. هذا يحدث للجميع، فالمرء ينجح في أمور كثيرة، ويفشل في أخرى".
أعادت وفاة الرجل إلى دائرة النقاش، تحديدا في العالم العربي بين شلة من الممانعين العرب، سؤالا استنكاريا: هل أصبح العالم أفضل بزوال الاتحاد السوفياتي؟ ما لا شك فيه، أن العالم خسر كثيرا بتفكك الاتحاد، حيث برزت أمريكا دولة قائدة للعالم. لكن تداعيات الإبقاء على اتحاد شبح، جسد بلا روح، ربما كانت أكثر تكلفة.
بعيدا عن الاعتراف الزائف لأبناء الوطن، تمكن الراحل من تسجيل اسمه في قائمة أشهر شخصيات القرن الـ20. ونحج بفضل قرارته في تغيير قواعد النظام العالمي برمته، لكنه فشل فشلا ذريعا في تغيير روسيا وعقلية الشعب الروسي.

الأكثر قراءة