صندوق النقد الدولي .. إصلاح الذات قبل إصلاح الآخرين
دخلت أربع دول عربية، منذ عدة أشهر، في مسلسل مفاوضات مع صندوق النقد الدولي، من أجل الحصول على مساعدات مالية نظير الالتزام ببرامج الإصلاح الاقتصادي التي تضعها الهيئة المالية الدولية. تظل هذه المؤسسة الخيار الأبرز لعديد من الدول العربية، مع تنامي التحفظات على تقديم التمويل التي تبديها عادة باقي المؤسسات المالية الأخرى، متى رفض الصندوق مساعدة هذه الدولة أو تلك.
منتصف العام الجاري، دخلت تونس بشكل رسمي في مفاوضات مع الصندوق، بشأن برنامج إصلاح اقتصادي جديد، يمنحها قرضا قدره أربعة مليارات دولار. وكانت مصر قد طالبت، في آذار (مارس) الماضي، بدورها مساعدات في إطار برنامج إصلاح اقتصادي، يرافقه تمويل لم يكشف عن قيمته. تقديرات الخبراء تفيد بأن القاهرة بحاجة إلى قرض تصل قيمته إلى 15 مليار دولار، للتخفيف من الأزمة الاقتصادية المتصاعدة، بسبب الحرب الروسية الأوكرانية.
واستطاع لبنان، بعد عامين من التفاوض مع الصندوق، التوافق بشكل مبدئي، نيسان (أبريل) الماضي، حول برنامج إصلاح اقتصادي ومالي شامل، تمهيدا لمنح البلد قرضا بقيمة ثلاثة مليارات دولار. بيد أن التمكين من القرض لا يزال معلقا، فالصندوق لا يزال يطلب من الحكومة اللبنانية مزيدا من الإصلاحات، خاصة ما يتعلق بإعادة هيكلة القطاع المصرفي. وحصل السودان، في حزيران (يونيو) 2021، على قرض بلغ 2،5 مليار دولار، إلا أن التنفيذ توقف بسبب الاضطراب الذي شهدته البلاد، تشرين الأول (أكتوبر)، حيث تدخلت مؤسسة الجيش في السياسة واحتجزت رئيس الوزراء، ما جعل الصندوق يوقف سريان الاتفاق إلى حين عودة الاستقرار السياسي الكامل في البلاد.
يظهر أن هذه المؤسسة التي أسست بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية كانون الأول (ديسمبر) 1945، استجابة للانهيار الاقتصادي والمالي الدولي الذي شهده العالم ثلاثينيات القرن الماضي، تملك سلطة كبيرة على جميع الدول الأعضاء فيها (190 عضوا). فالأعضاء، كما توحي بذلك أحوال الدول العربية والعالمية "33 دولة" التي وقعت اتفاقية مع هذه المؤسسة المالية، يشركون مؤسسة مالية دولية في اتخاذ تدابير لمواجهة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، من شأنها أن تؤثر بشكل خطير في الحياة اليومية لمواطنيها.
يضطلع الصندوق بدور مراقب النظام المالي الدولي، فلديه ممثلون في عديد من الدول، فضلا عن وجود 17 دائرة متخصصة في مقره الرئيس، تتولى مراقبة السياسات التي يمارسها المدينون من كثب، استنادا إلى المادة الرابعة من النظام الأساسي التي تحتم على الدول الأعضاء تقديم تقرير سنوي عن وضعيتها. وعمليا، لديه وجود دائم في معظم الدول المستعمرة، فغانا الدولة المستقلة، منذ 1957، وصلت إلى 17 برنامجا مع الصندوق، بمعدل برنامج إصلاحي كل عامين ونصف.
يعامل الصندوق الدول معاملة الزبائن، فكل عضو لديه رأس مال يتشكل أساسا من الاشتراك المدفوع عند الانخراط، ومن توزيع أسهم مجانية على مر الأعوام. ويستند عند البث في مسألة منح القروض التي تحسم فيها أساسا ثلاثية، ضبط الموازنة العامة والإصلاحات الهيكلية وحجم الديون الثقيلة، على جملة من المعايير التي تتعلق بحجم القروض، وقوة الدولة وظرفها الاقتصادي، وأحيانا بعلاقة الدولة طالبة القرض بواشنطن.
يستشف هذا المعيار من تركيبة مجلس إدارة الصندوق المكونة من 24 عضوا، منهم ثمانية أعضاء دائمين، تحظى من بينهم الولايات المتحدة المساهم الرئيس بـ16،5 في المائة، متبوعة باليابان بـ6،14 في المائة، تليها الصين في المركز الثالث بـ6،08 في المائة، حصة الأسد تمنح واشنطن حق النقض "الفيتو" بحكم الواقع، فهي قادرة على عرقلة أي تعامل مالي لا يتوافق مع مصالحها. وحدث ذلك، في 1956، عندما اعترضت الإدارة الأمريكية على منح الصندوق قرضا للمملكة المتحدة، ما جعل الجنيه الاسترليني في وضع صعب جدا حينها.
منذ 2010، ارتفعت الأصوات المطالبة بإصلاح الصندوق، بشكل يتوافق مع موازين القوى الاقتصادية الجديدة، إذ لا يعقل، بحسب هؤلاء، أن تمتلك الولايات المتحدة قوة تصويتية تعادل ما تمتلكه الدول الأوروبية مجتمعة. لذلك، ينبغي مراجعة مساهمة الدول الأعضاء، أساسا تخفيض مساهمة واشنطن لمصلحة وافدين جدد مثل الصين، حتى تفرض نوعا من التوازن داخل هذه المؤسسة المالية الدولية.
التجاوب مع هذا المطلب من جانب واشنطن، يعني تراجعا جديدا للنفوذ الأمريكي على المسرح العالمي، فالصندوق إحدى الأدوات الناعمة التي تتحكم بها الولايات المتحدة في النظام العالمي لما بعد الحرب العالمية الثانية. لكن واقع الحال يظهر أن الصندوق لم يعد الطريق الوحيد للخلاص أمام الدول التي تعاني أزمات مالية، فقد شرعت حكومات عديدة في عقد صفقات ثنائية، مع دول أخرى لسداد ديونها السيادية، دون المرور عبر مؤسسة صندوق النقد الدولي. فسريلانكا، على سبيل المثال، تسعى نحو تأمين 1،5 مليار دولار من مانحين ماليين كبار "الهند، اليابان، الصين"، بعيدا عن اشتراطات وإملاءات المؤسسات الغربية المجحفة.
رغبة لن تتردد الصين في تلبيتها، فبكين تتحين الفرصة تلو الأخرى لمساعدة الدول للانسلاخ من معسكر واشنطن، ليس حبا في سواد أعين شعوبها بقدر ما يفسر الأمر بمعركة تكسير العظام المحتدمة بين التنين الصيني والنسر الأمريكي. هكذا باتت الصين بنكا بديلا، خاصة بالنسبة إلى دول العالم الثالث، وتحديدا بعد إبداء بكين مرونة لافتة بشأن إعادة هيكلة الديون وتنظيمها، ومنح شروط وامتيازات أفضل من تلك التي يفرضها صندوق النقد الدولي.
بات بمقدور الدول اليوم الحصول على قروض ومساعدات مالية، بعيدا عن تدخل المقرضين في شؤونها الداخلية، بفرض خطط محددة للإنقاذ، وتوصيات - أقرب ما تكون إلى التعليمات - بتبني سياسات محددة، لتحسين الميزانية العامة، واتخاذ تدابير تقشفية وقرارات مؤلمة "التفريط في الرعاية الاجتماعية، التخلي عن دعم المواد الأساسية..." تعجل الأمن والسلم الاجتماعي داخل هذه الدول الهشة بطبيعتها على كف عفريت.