انكشاف أوروبي أمام قيم الاتحاد ومثالياته
تحولت الحرب الروسية - الأوكرانية إلى لحظة كاشفة، عرت ما بقي من مثالب دول القارة الأوروبية، فما لبث حلم الوحدة أن استوى حتى بدأت نقائصه تنكشف للداخل قبل الخارج. بعيدا عن معارك الإخوة فيما بينهم، بسبب الميولات السياسية "مؤيدو الوحدة / مشجعو الانفصال" داخل الكيان الأوروبي. وقفة الأوروبيين، في الأعوام الأخيرة، عند تهديدات تقليدية وأخرى حديثة، أظهرت للعالم حجم الانكشاف الأمني في القارة العجوز.
ولد هذا الأمر شعورا بالعجز بين الأعضاء في النادي الأوروبي، وأحيا بالموازاة مع ذلك نقاشا في صفوف الخبراء وصناع القرار حول سبل التغلب على هذا العجز، الذي تحول إلى مفارقة غير مقبولة، بسبب الاختلال البين في الموازين، ما بين القدرة الاقتصادية الكبيرة للكيان الأوروبي في مقابل الوهن في الصعيدين السياسي والعسكري المفوتين للولايات المتحدة منذ مشروع مارشال، أواسط 1947.
العجز العسكري الأوروبي
طوال الحرب الروسية - الأوكرانية، عكس كل التوقعات، بدأت تثار أسئلة في الدوائر الأوروبية بشأن تداعيات عملية تسليح أوكرانيا. فأخيرا، تحدثت كريستين لامبرشيت وزيرة الدفاع الألمانية، بصراحة وجرأة نادرتين، معلنة بلوغ برلين الحد الأقصى في مستوى تسليح كييف، "يجب أن أعترف أننا وصلنا إلى حدود ما يمكننا تقديمه، لا بد أن يكون جيشنا قادرا على ضمان الدفاع عن الولايات والاتحاد الألماني.. سأحرص على استمرار هذا الوضع".
وسبق لأدميرال توني راداكين، رئيس أركان الدفاع البريطاني، أن أثار شكوكا في أوساط البريطانيين عند تصريحه بأن إعادة مخزون المملكة المتحدة من الأسلحة إلى مستويات ما قبل الحرب الأوكرانية، قد استغرق أعواما عديدة، بسبب القيود المفروضة على القدرات الصناعية للبلد. "الأمر سيستغرق عدة أعوام، فليس بمقدورنا بلمسة سحرية الإنتاج السريع للأنواع المتطورة من الأسلحة.. سنتحاج إلى عدة أعوام للعودة إلى المستوى اللازم من المخزونات".
فرنسا ليست أفضل حالا من ألمانيا وبريطانيا، فحرب الاستنزاف المستمرة في عملياتها العسكرية في منطقة الساحل والصحراء، ظهرت واضحة في دعمها العسكري المتواضع لأوكرانيا. يبدو أن المعادلة انقلبت في أوروبا الصناعة والتحديث، فهذه شواهد من ثلاث إمبراطوريات استعمارية غزت جيوشها كل كل بقاع العالم، أصبحت شبه عاجزة عن ضمان ما يكفي من السلاح للدفاع عن نفسها. فأنى يكون لها أن تتحمل التكلفة المادية واللوجستية لضمان تزويد حلفائها قصد الدفاع عن أنفسهم في حالة الضرورة، كما يجري مع أوكرانيا حاليا.
الإخفاق البيئي الأوروبي
كانت دول القارة العجوز، باستثناء دول الجنوب المطلة على البحر الأبيض المتوسط، إلى وقت قريب جدا، تنظر إلى قضايا التغير المناخي من باب الترف الفكري، الذي تخوض فيه من باب تأكيد المركزية الأوروبي فقط. لأنها، وبناء على أسانيد التاريخ ومعطيات الجغرافيا، في منأى عن أي تداعيات من شأنها أن تتولد عن معضلة التغير المناخي. فضلا عن كونها على أهبة الاستعداد، على جميع الأصعدة، لمواجهة الكوارث البيئية الناجمة عن الأزمة المناخية.
أدرك الأوروبيون، في جنوب القارة كما الشمال، من خلال وقائع الأعوام الأربعة الأخيرة أن الحقيقة غير ذلك، فما يروج مجرد ادعاءات ومزاعم تفتقد الحجة والدليل. وذلك بعد اجتياح ظواهر الطقس المتغيرة لعموم أوروبا، من شرقها حتى غربها. وتراوح الأمر بين الفيضانات الصيفية "ألمانيا، إيطاليا..." والحرائق الملتهبة "اليونان، البرتغال، إسبانيا..." وموجات الجفاف والحر "فرنسا، بريطانيا..." التي سجلت في عدد من المناطق الأوروبية أرقاما قياسية غير مسبوقة.
أظهر التعاطي الأوروبي مع مشكلة الحرارة المرتفعة هذا العام، والفيضانات الجارفة العام الماضي، أن مساعيهم في مجال الأمن البيئي نظرية أكثر منها عملية. فموجة الحر الأخيرة شلت مظاهر الحياة في أكثر من دولة، بريطانيا نموذجا، لأن البنية التحتية المنتشرة في البلد "سكك حديدية، مطارات، مستشفيات، مدارس..." قديمة وعتيقة، لم تخضع لأي تحديث، يأخذ بعين الاعتبار ما يحذر من قرب حدوثه خبراء المناخ. لقد وجدت دول صناعية كبرى نفسها، أمام هذه المعضلات، شبه عاجزة في مشهد عادة ما يظهر في دول العالم الثالث.
الفشل الصحي الأوروبي
كانت جائحة كورونا أولى محطات اختبار قيم الحلم الأوروبي المثالي، فبعد أن تهاوت إيطاليا في قلب القارة العجوز، سارع الإخوة الجيران إلى صد الأبواب وإغلاق الحدود في وجه روما. وانكفأت كل دولة على نفسها بحثا عن حلول فردية للنجاة والوقاية، غير آبهة بلائحة طويلة من الشعارات طالما تغنى بها الجميع، وعلى مدار عقدين من الزمن اعتبارا من تاريخ العمل بالعملة الموحدة فقط. لحظة بدا فيها البعيدون أرحم بإيطاليا من رفاقها في النادي الأوروبي.
بالتوازي مع الانهيار القيمي، أدرك الأوروبيون أن الأدوات اللازمة لتحقيق سلامتهم الصحية باتت بين يدي الآخرين، فتوافر أمهر العقول في مهن الطب والتمريض والصيدلة غير مجد لضمان الأمن الصحي، في ظل ارتهان دول صناعية كبرى بشكل كلي للصين مصنع العالم. فجأة أضحت العيون في عموم التراب الأوروبي مشدودة إلى ما قد تجود به سلاسل التوريد المقبل من بكين، من أبسط الأشياء "الكمامات، مواد التعقيم..." حتى أعقدها "الأجهزة الطبية، قنينات الأكسجين..." في المجال الصحي.
خلال الأشهر الأولى للجائحة، لم تتمكن أي دولة في النادي الأوروبي "العملاق" - كما يسوق دائما - من تحقيق الاكتفاء في المجال الصحي، بل عادت ظواهر "السرقة، القرصنة..." اعتقد العالم أنها صارت جزءا من أرشيف التاريخ، ولا محل لها بين الدول في عالم القرن الـ21، حيث الجميع خاضع لقواعد وأعراف تنظم سير التعاملات بين دول العالم.
لقد رأى الأوروبيون صورتهم الحقيقية أمام المرآة، خاصة بعد اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية، وتأملوا فيها جيدا على ما يبدو، حين اكتشفوا أن الأمن الأوروبي المزعوم بين أيدي جهات أخرى خارج نطاق القارة العجوز، بعدما فوضوا حمايتهم إلى الآخرين للاضطلاع بها.