العالم .. أزمة تلو أزمة «4»
تواجه الاقتصادات الصاعدة والنامية مخاطر إضافية تتمثل في التداعيات المحتملة من تشديد السياسة النقدية في الاقتصادات المتقدمة ـ ليس ارتفاع تكاليف التمويل فحسب، بل أيضا مخاطر التدفقات الرأسمالية الخارجة. ولمعالجة هذه التحديات، ينبغي أن تظل الدول على استعداد لاستخدام المجموعة الكاملة من الأدوات المتاحة. وتراوح هذه الأدوات بين تمديد آجال استحقاق الديون واستخدام مرونة سعر الصرف للقيام بتدخلات في سوق الصرف واتخاذ تدابير لإدارة تدفقات رأس المال. ومساعدة الدول على الاستجابة في مثل هذه الظروف هو بالضبط ما دفعنا أخيرا إلى تحديث رؤية الصندوق المؤسسية في هذا الخصوص. وينبغي أن تقترن هذه الأدوات على المستوى القطري بجهود دولية لمساعدة الاقتصادات على التحرك بأمان على مدار دورة التشديد النقدي.
ويكتسب الحفاظ على فرص الإمداد بالسيولة أهمية خاصة. وقد كانت قروض الصندوق ـ التي تتجاوز الآن 300 مليار دولار ـ داعما كبيرا لدولنا الأعضاء في هذا الصدد. وينطبق هذا على توزيع مخصصات من حقوق السحب الخاصة في الصيف الماضي قدرها 650 مليار وحدة. وتستخدم الدول منخفضة الدخل 40 في المائة من مخصصات حقوق السحب الخاصة التي حصلت عليها لسداد أولويات الإنفاق المتعلقة بكوفيد - 19، مثل اللقاحات وغيرها من أوجه الإنفاق الضروري.
لكن حتى في ظل المساعدات، يواجه كثير من صناع السياسات المهمة الصعبة المتمثلة في معالجة تصاعد الديون. ولهذا يتعين توخي التحديد الدقيق لأولويات الإنفاق ـ على شبكات الأمان الاجتماعي والصحة والتعليم ـ وتوجيهها لأضعف الفئات. ومن الضروري رسم مسار موثوق للمالية العامة على المدى المتوسط، بما في ذلك سياسات ضريبية عادلة ـ ذلك أنها ستساعد على إيجاد الحيز اللازم لتقديم هذه المساعدة، دون إخراج الدين عن الحدود المستدامة.
وسيقتضي الأمر إعادة هيكلة الديون في بعض الدول ـ خاصة النسبة البالغة 60 في المائة من الدول منخفضة الدخل التي تعاني المديونية الحرجة أو التي باتت قريبة منها. ولمساعدة كثير من هذه الدول، يجب تحسين الإطار المشترك الذي وضعته مجموعة العشرين لمعالجة الديون من خلال إجراءات واضحة وخطوط زمنية للمدينين والدائنين.
وينبغي أيضا توسيع نطاقه ليشمل دولا أخرى ضعيفة ومثقلة بالديون يمكن أن تستفيد من التنسيق بين الدائنين. وتسوية الدين بصورة منظمة وجيدة التوقيت تصب في مصلحة كل من المدينين والدائنين.
وهذه الخطوات وحدها لن تكفي لتحقيق نمو دائم واحتوائي. لذلك يجب على صناع السياسات مواصلة التركيز على اغتنام فرص التحولات الهيكلية الرئيسة الجارية، وأهمها التحول الأخضر والثورة الرقمية. وكما يبرز أحدث تقرير أصدرته الأمم المتحدة عن المناخ، فإن الخطر الذي يتهدد كوكبنا لن يتلاشى، بل إنه يزداد سوءا. ويجب تخفيف آثار التغير المناخي في كل مكان، والتكيف معها حيثما كان ذلك ضروريا، وبناء الصلابة في مواجهة الصدمات المقبلة.
ونحن نعلم ما يتعين القيام به، منهج شامل يتضمن تسعير الكربون والاستثمار في مصادر الطاقة المتجددة، مع إتاحة التعويض الملائم والفرص الجديدة للمتضررين من التحول الأخضر. ويمكن لهذه التدابير أيضا أن تدعم أمن إمدادات الطاقة.
والصندوق يعمل على تعزيز مساعداته للدول الأعضاء. فقد وافق المجلس التنفيذي أمس، على إنشاء صندوق استئماني جديد يسمى "الصندوق الاستئماني للصلابة والاستدامة". وسيساعد هذا الصندوق الاستئماني، من خلال توفير تمويل أطول أجلا بسعر معقول وتحفيز الاستثمار الخاص، على معالجة التحديات ذات الأهمية الحيوية للاقتصاد الكلي، مثل تغير المناخ ـ والجوائح المستقبلية.
والقضية العالمية الأخيرة التي سأتطرق إليها اليوم هي الثورة الرقمية. ويتضمن هذا تعليم العمالة مهارات جديدة لمواكبة اقتصاد يزداد تحولا إلى السمة الرقمية، وإطلاق الابتكارات الممكنة، مثل العملات الرقمية للبنوك المركزية، وتعزيز الإطار التنظيمي المحيط بالأصول المشفرة.
ويعمل أكثر من 100 بلد من دولنا الأعضاء بنشاط على استكشاف هذا المجال الحيوي ـ ونحن نعاونها في هذا الصدد من خلال المشورة بشأن السياسات وبناء القدرات.
لقد كنا نقول إن "المستقبل رقمي"، ونقول الآن إن المستقبل جاء وجلب معه مصادر جديدة للإنتاجية والنمو والوظائف!
في الأسابيع السبعة الماضية، شهد العالم أزمة كبرى ثانية ـ حرب فوق الجائحة. ومن مخاطر هذه الحرب احتمال خسارة كثير من التقدم الذي حققناه على مدار العامين الماضيين في التعافي من آثار الجائحة. أضف إلى ذلك التهديد المتنامي المتمثل في التشتت إلى تكتلات جغرافية ـ سياسية واقتصادية.
ففي عالم يؤدي فيه قيام حرب في أوروبا إلى السقوط في براثن الجوع في إفريقيا، وحيث يمكن للجائحة أن تلف المعمورة في غضون أيام وتتردد أصداؤها طوال أعوام، وحيث يعني وجود الانبعاثات في أي مكان ارتفاع مستويات البحار في كل مكان ـ لا يمكن الشك في جسامة الخطر الذي يهدد رخاءنا المشترك من جراء انهيار التعاون العالمي.
فالتعاون الدولي هو العلاج الفاعل الوحيد لهذه المخاطر. إنه أملنا الوحيد من أجل مستقبل أكثر عدالة وصلابة، وهو الواجب المنوط بنا تأديته.
والصندوق، بعضويته التي تشمل جميع دول العالم تقريبا، يمثل منبرا مجربا للتعاون العالمي. واستنادا إلى القوة الجماعية لدولنا الأعضاء، نقدم التمويل والمشورة العاجلة بشأن السياسات للدول الأكثر تضررا من الأزمة المزدوجة، ونقف على أهبة الاستعداد للعمل مع شركائنا الدوليين من أجل القيام بمزيد.
في مؤتمر بريتون وودز الذي عقد في 1944، أوضح هنري مورجنثاو وزير الخزانة الأمريكي، "بدهية اقتصادية بسيطة" للمساعدة على إرشاد مؤسسي الصندوق، "الرخاء، كالسلام، لا يقبل القسمة". وفي عالم اليوم الأكثر عرضة للصدمات، فإن التحديات التي نواجهها لا تقبل القسمة تماما. وما نبذله من جهود لحلها يجب ألا تقبل القسمة أيضا.