الملالي .. أساليب بائدة لم تعد تجدي لإسكات المقهورين

الملالي .. أساليب بائدة لم تعد تجدي لإسكات المقهورين

تعيش إيران على وقع انتفاضة شعبية متنامية، عقب حادثة وفاة الشابة الكردية مهسا آميني، تحت التعذيب على يد "شرطة الأخلاق"، التي اعتقلتها ثلاثة أيام قبل إعلان خبر وفاتها في المستشفى، حين كانت في زيارة إلى العاصمة طهران، بدعوى أنها ترتدي ملابس غير محتشمة. تعمدت الحكومة نهج الاستعجال في التعاطي مع الحادثة، رغبة منها في تجنب الغضب الشعبي، معلنة أن الراحلة مصابة بمرض في القلب، كان السبب في وفاتها المفاجئة، بيد أنها حجبت الجثمان عن أهل الضحية، حيث تولى ممثلو النظام في مسقط رأسها، مدينة سقز الكردية، الإشراف على مراسم الجنازة، للتغطية على جريمة القتل.
تتولى "شرطة الأخلاق" المعروفة رسميا باسم "دوريات التوجيه" "غشت إرشاد"، متابعة الالتزام بالقواعد التي يجري العمل بها، منذ احتكار أصحاب العمائم ثورة 1979. فلدى هذا الجهاز التنفيذي صلاحية مراقبة امتثال النساء، أيا كانت جنسياتهن أو دياناتهن، لتلك الضوابط، وذلك عن طريق دوريات في الأماكن العامة. وقد يحدث أحيانا، أن يمتد دورها نحو محاسبة الرجال، بشأن أنماط معينة من الملابس، أو عند عمل تسريحات شعر معينة. يذكر أن نفوذ هذا الفيلق وثيق الصلة بطبيعة الحكومة، فقد ذاعت فضائحه خلال فترة الرئيس محمود أحمدي نجاد، الذي أعطاه الضوء الأخضر، قبل أن يتراجع نتيجة تضييق الرئيس حسن روحاني عليه، بقراره "عدم التعرض أو اعتقال النساء اللواتي يتجولن في الأماكن العامة بدون غطاء الرأس، وعدم رفع دعاوى قضائية ضدهن".
بعد تولي إبراهيم رئيسي الحكم، استعادت "شرطة الأخلاق" قوتها وسطوتها، ما جعلها أكثر بأسا وبطشا، ولا سيما عقب حثه إياها على أن "الإجراءات الضرورية والاحترازية يجب أن يتم اتخاذها". عودة رافقها تجدد النقاش بشأن جدوى هذه المؤسسة، إذ نشر حسن الخميني، حفيد مؤسس النظام الإيراني، في تموز (يوليو) الماضي تعليقا على جرائمها، جاء فيه "هذا ليس توجيها، هذا ليس إسلاميا، هذا ليس حكيما، ولا فائدة منه".
وطالب محمد باقر قاليباف، رئيس البرلمان الإيراني، عقب حادثة وفاة آميني بمراجعة الأساليب التي تستخدمها دوريات شرطة الأخلاق. ولم يتردد النائب جلال رشيدي كوشي في انتقاد الشرطة، عادا أنها "لا تحقق أي نتيجة سوى إلحاق الضرر بالبلاد.. لكن بعض الأشخاص لا يريدون رؤية الحقيقة. هل يستعيد الأشخاص، الذين تقودهم شرطة التوجيه هذه إلى جلسات توضيح، إدراكهم ويتوبون عندما يخرجون"؟
عادة ما تتحرك الاحتجاجات الشعبية في إيران لدواع سياسية، على غرار ما حدث 2009، بعد رفض أنصار المعارضة إعلان النظام فوز المرشح محمود أحمدي نجاد بالرئاسة، أو اقتصادية، كما حصل 2019، احتجاجا على الارتفاع المهول في أسعار المواد الأساسية. لكن هذه المرة، يبدو الأمر مختلفا، بدءا من الدافع وراء الاحتجاج، المتعلق بقضية الحرية الشخصية، مرورا بحضور الطابع القومي، فالضحية تنتمي إلى الأقلية الكردية، التي تمثل ما بين 10 إلى 12 في المائة من سكان البلاد، التي كانت علاقتها بالنظام متوترة باستمرار، وانتهاء بارتباط الانتفاضة بالنساء. فالملالي - حسب غولينه أتاي الصحافية الألمانية من أصول إيرانية - "يخشون النساء أكثر من خشيتهم خصومهم الأيديولوجيين".
لكل ذلك، تبقى هذه الانتفاضة مختلفة مقارنة بما سبقها، فقد كشفت للإيرانيين وللعالم قاطبة ترتيب الأولويات في نظام المرشد، الحريص على مراقبة خصلات الشعر الخارجة من تحت حجاب المرأة، بدلا من التحلي بالجرأة والشجاعة، لمواجهة المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تدفع بملايين من أبناء البلاد نحو دوامات الفقر والحرمان، وحتى الانتحار. كما تشكل فضحا لأسلوب "التخمة الدينية" الذي يداري فشل النظام، على كل الجبهات والأصعدة. فبهذا التكتيك يتهرب الملالي من مسؤولياتهم الدنيوية، بإظهار حرصهم وعنايتهم بمصالح الشعب الأخروية.
تكشف الشعارات التي رددها المتظاهرون عن توجه عام نحو رفض الأيديولوجيا الدينية، من التحفظ على "الحجاب الإلزامي" نحو مناهضة "ولاية الفقيه"، الذي عمد الإيرانيون إلى حرق صور من يرمزون إليها. وهذا ما أكدته أرقام استطلاع رأي نشرته "إيران إنترناشيونال"، حين كشف أن 1/4 الإيرانيين فقط يؤمنون بفكرة العودة، أي عودة الإمام المهدي "منقذ البشرية"، أحد الأسس المتينة في مذهب التشيع المعاصر، ويرفض 2/3 الأحكام الدينية التي يفرضها النظام بالجبر والقوة والإكراه... وهلم جرا من المؤشرات التي توحي بتهاوي الشرعية الدينية، الدعامة الأساسية لجمهورية المرشد في إيران.
تثبت استعانة النظام لمواجهة الانتفاضة - إضافة إلى العنف وقوة السلاح - بأنصاره الذين نزلوا يوم الجمعة الماضي إلى الشوارع لمزاحمة المنتفضين، فيما سمي بـ"التظاهرة العظمية" التي دعا إليها المجلس الإسلامي لتنسيق التنمية، الذي وصف المحتجين في بيان بـ"المرتزقة"، دعما للنظام وتنديدا "بالمتآمرين والمس بمقدسات الدين". وبلغ خوف النظام حد الاستعانة بأئمة المساجد، فقد ناشد سيد أحمد خاتمي، في خطبة الجمعة في مسجد طهران، السلطات بالضرب بيد من حديد، قائلا "أطلب بحزم من السلطة القضائية التحرك بسرعة ضد المشاغبين الذين يعنفون الناس، ويضرمون النار في الممتلكات العامة.. عاقبوا هؤلاء المجرمين بسلاح القانون".
أساليب بائدة ومستهلكة لم تعد تجدي لإسكات المقهورين، فتعطيل خدمات الإنترنت في عديد من المناطق، لم يمنع الجماهير من الخروج بأعداد ضخمة ومتزايدة يوما بعد آخر، كما أن إفراط النظام في العنف ضد المحتجين لم يمنعهم من توجيه شعارات ضد رأس النظام "الموت للمستبد" و"نعم للحرية والمساواة" و"هذا العام، عام الدم.. عام سقوط سيد علي"، في إشارة إلى المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي.
شدة القمع وتزكية الانقسام، بتأليب الأنصار ضد المنتفضين، ربما يحولان دون تحقيق الانتفاضة أهدافها الآنية، لكنها نجحت في زعزعة العمود الفقري لشرعية النظام في إيران. فما يحدث حاليا في إيران وضع تحت الأضواء الشرعية الدينية لرجال الملالي، إذ لا يستقيم أن يقوم جهاز يدعي صيانة الأخلاق بتنفيذ عملية القتل.

الأكثر قراءة