أوروبا تستنجد بالماضي لحل مشكلات الحاضر والمستقبل

أوروبا تستنجد بالماضي لحل مشكلات الحاضر والمستقبل

تمكن حزب "إخوة إيطاليا"، اليمني القومي المتطرف، بقيادة الصحافية جورجيا ميلوني، وضمن ائتلاف حكومي أوسع من الفوز بالانتخابات التشريعية التي شهدتها إيطاليا الأسبوع الماضي. بذلك يكون أول حزب متطرف يتولى قيادة حكومة في دولة مؤسسة للاتحاد الأوروبي، في 1957، وصاحبة ماض أليم مع الأحزاب السياسية المتطرفة، الحركة الفاشية بقيادة الصحافي بينيتو موسوليني "1922-1943".
قبل ذلك، وتحديدا في 11 أيلول (سبتمبر)، حقق حزب "السويديين الديمقراطيين"، اليميني الشعبوي تقدما لافتا، في بلد اسكندنافي معروف بقيم الانفتاح والتعددية والتنوع الثقافي، بحصده أزيد من 20 في المائة من أصوات الناخبين، ما بوأه المركز الثاني في الانتخابات التشريعية. هكذا يتحول الحزب، خلال 12 عاما فقط، من مجرد أصوات هامشية داخل الريكسداغ "6 في المائة في انتخابات 2010" إلى ثاني قوة سياسية، وراء الحزب الديمقراطي الاجتماعي.
كاد السيناريو الإيطالي أن يتكرر في فرنسا، خلال الدور الثاني للانتخابات الرئاسية، بتاريخ 24 نيسان (أبريل) الماضي، خلال المواجهة التي جمعت بين الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون، ممثل حزب "الجمهورية إلى الأمام"، ومارين لوبان، زعيمة حزب "التجمع الوطني" اليميني المتطرف لولا تصويت الفرنسيين، إجبارا لا اختيارا، لمصلحة القوى السياسية التقليدية، حتى يمنعوا مرشحة "الجبهة القومية" سابقا من دخول قصر الإليزيه.
وتنهل حكومة المحافظين في بريطانيا، سابقا مع بوريس جونسون وحاليا مع ليز تراس، إلى حد بعيد من أجندة اليمين المتطرف، فبرنامج حزب المحافظين مع الزعيمين الأخيرين، يكاد يكون نسخة مخففة من برامج الأحزاب اليمينية في أوروبا. بدءا من عقيدة معادات الوحدة الأوروبية، بالانتصار لخيار خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، وليس انتهاء بالسياسات المتطرفة في مجال الهجرة، بتبني خطة تصدير المهاجرين نحو إفريقيا "رواندا"، التي أحدثت شرخا سياسيا ومجتمعيا في البلاد، قبل التراجع تحت وقع القرارات والأحكام القضائية.
يوشك اليمين المتطرف على الحضور في عموم خريطة القارة العجوز، بما في ذلك دول كانت حتى وقت قريب مهد التسامح والتعايش، مثل النرويج وسويسرا وبلجيكا... حتى دول أوروبا الشرقية انتعشت بفعل سياسة تصدير المهاجرين إلى الاتحاد الأوروبي، غداة الانضمام إليه، على غرار بولندا ورومانيا وبلغاريا... تتجه نحو الارتداد عن سياسة أكلت ثمارها حتى وقت قريب، بعد انتشار وتغلغل التيارات اليمينية في مؤسساتها التشريعية.
وزاد الانحياز الأيديولوجي الخطاب اليميني قوة وانتشارا في ربوع أوروبا، خاصة في أعقاب ميل القوى السياسية التقليدية الوسطية، في اليمين واليسار على حد سواء، نحو إذابة الحدود الفاصلة بينها وبين القوى السياسية الراديكالية، فاليمين المحافظ في فرنسا، مثل "الجمهوريون" و"الجمهورية إلى الأمام" لا يختلف كثيرا في خطابه ولا حتى في برنامجه عن اليمين المتطرف "التجمع الوطني" و"الاستعادة" (إريك زمور). اليسار ليس أفضل حالا من اليمين، فحزب العمال في بريطانيا في منطقة رمادية غير واضحة، وأقصى اليسار في إسبانيا "حزب بودسموس" يغرف خطابه من معين اليمين المتطرف، فيما يتعلق بعديد من القضايا.
تحتاج الذاكرة الأوروبية إلى من يذكرها، في غمرة هذا التهافت المنقطع النظير نحو أقصى اليمين، بوقائع الحملة السياسية الأوروبية ضد النمسا في 2000، عقب تشكيل أول "اتحاد يميني"، في القرن 21 بين حزب الشعب "المحافظين" وحزب "الحرية النمساوي" (اليمين القومي المتشدد)، التي كانت بتحريض من فرنسا، الرئيس جاك شيراك "اليمين المحافظ" ورئيس الوزراء ليونيل جوسبان "اليسار الديمقراطي"، حينها قرر الاتحاد الأوروبي تعليق علاقاته الطبيعية مع فيينا، ما دفع بالزعيم السياسي النمساوي يورج هايدر، اليميني المتشدد إلى التنحي عن زعامة الحزب.
لا ينكر عدد من الساسة الأوروبيين اليوم إعجابهم بالفكر النازي والفاشي، ومن جملتهم جورجيا ميلوني، المرأة التي ستقود الحكومة في إيطاليا. بيد أن قدرة هؤلاء وغيرهم على إعادة أمجاد النازية والفاشية معدومة، والدليل على ذلك قدرة إيطاليا مثلا على صيانة ديمقراطيتها في 2018، حين كانت مهددة بوصول حزبين شعوبيين إلى الحكم، "رابطة الشمال" و"النجوم الخمسة"، لكن النظام أو "الدولة العميقة" بلغتها كان أقوى، فأعاد الأمور إلى نصابها في بلد سمته الأساسية عدم الاستقرار السياسي، فالصراع السياسي في إيطاليا كان سببا وراء تغيير 41 رئيس وزراء و63 حكومة خلال 70 عاما.
تبدو حيلة الإرباك السياسي أو العرقلة السياسية مجدية لعرقلة الصعود المستمر لقوى اليمين المتطرف، في عديد من العواصم الأوروبية "روما، مدريد، باريس، فيينا...". لكنها قطعا لا تقدم حلولا للأزمة، بقدر ما تدفع نحو إطالتها فقط. فالمشكلة تتعدى مجرد الإطاحة بهذه الحكومة أو ذاك التحالف، نحو ما هو أعوص من ذلك بكثير في بنية الدولة داخل القارة الأوروبية.
منذ بداية الألفية الثالثة، تجتاح أوروبا أزمة مركبة يتداخل فيها الاقتصادي بالاجتماعي والثقافي بالأيديولوجي، ويبقى عنوانها العريض عجز النخب السياسة في الدول الأوروبية عن استيعاب هذه المزيج أولا، فضلا عن اجتراح حلول لهذه الأزمة البنيوية المركبة. واضح أن المؤسساتية السياسية التقليدية في أوروبا "الأحزاب مثلا" هرمت لدرجة لم تعد قادرة على مواكبة ما يجري من حولها، ما جعلها غير قادرة على مخاطبة الجماهير، حتى عندما تقوم بذلك فتصبح مجرد ناطقة بلسان اليمين المتطرف.
تدفع هذه الحقيقة تيارات اليمين المتطرف إلى الانتشار كالفطر مستغلة عجز القوى السياسية التقليدية من أجل تحقيق مكاسب آنية، لا تتعدى التنفيس على الجماهير بتبني خطابات شعبوية، وتقديم حلول ترقيعية لا تحل الأزمات بقدر ما تطيل في عمرها، وتزيد محاولات حلها في المستقبل وتعقيدها... هو ذا اليمين المتطرف الذي يستنجد بالماضي "النازية والفاشية والقومية" بحثا عن حلول لمشكلات الحاضر والمستقبل "العولمة، المناخ، الهجرة....".

الأكثر قراءة