الانتخابات في البرازيل .. فلسفة الأم ضد فلسفة السوق

الانتخابات في البرازيل .. فلسفة الأم ضد فلسفة السوق

خلافا لتوقعات الحسم النهائي للنتيجة من الدور الأول، لمصلحة الرئيس السابق ومرشح حزب العمال والتحالف اليساري لويس لولا دا سيلفا، اتجهت الانتخابات في البرازيل نحو جولة ثانية، ضد الرئيس المنتهية ولايته جايير بولسونارو، عن الحزب الليبرالي الديمقراطي اليميني المتطرف، بعد تسجيل نسبة فارق بين المتنافسين لا تتعدى 5.2 في المائة "48.4 مقابل 43.2".
قبل بلوغ موعد الجولة الثانية، في 30 من الشهر الجاري، سيعيش البرازيليون حملة انتخابية متوترة، ظهرت بواكيرها في الدور الأول، بعد وصف الرئيس الحالي، خلال تجمع خطابي، لولا دا سيلفا منافسه الأقوى بأنه "رئيس عصابة إجرامية كانت تدير حكومة من اللصوص، خلال رئاسته التي استمرت لفترتين في 2003 و2010"، وأضاف فيما يشبه التشكيك المسبق في النتائج بأن "الوضع الراهن سينتهي بإحدى ثلاث طرق، إما السجن وإما النصر أو الموت". وقال بكل ثقة، "لن أدخل السجن"، فيما يشبه السخرية من دا سيلفا الذي أمضى 18 شهرا وراء القضبان.
من جانبه، عد زعيم تحالف اليسار أن بولسونارو مجرد "نسخة" عن الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، فهو دائم الانتقاد والتشكيك في نظام تصويت معمول به في البلد منذ 1996، وبفضله تولى الرئيس مقاليد الحكم في البرازيل. وأضاف بأن خصمه "كذاب ووقح، قامت حكومته بالتستر على الكسب غير المشروع في شراء اللقاحات خلال جائحة كوفيد - 19 التي حصدت أرواح أكثر من 680 برازيليا".
بعيدا عن الحرب الكلامية، يحاول قائد اليسار البرازيلي استثمار سيرته الشخصية الصعبة ورصيده الشعبي في الحكم، والنضالي في السجن، لكسب المعركة الانتخابية، الرئاسية والتشريعية والمحلية، خاصة بعد حصوله على البراءة، بقرار من المحكمة العليا. بذلك يثبت أن مقارنة نفسه بالزعيم نيلسون مانديلا لم تكن مزايدة، فقد خاطب الجميع حينها بقوله، "سأثبت أن اللصوص هم من اعتقلوني.. أريد أن أخرج من هنا بالطريقة نفسها التي أتيت بها، ورأسي مرفوع".
انعكست تنشئة الرجل على مساره، فخدلان الأب أخرج الطفل لولا مبكرا، من مقاعد الدراسة في الصف الثاني، ودفع به إلى سوق العمل، حيث اشتغل في تلميع الأحذية من أجل كسب المال. تولى تعليم نفسه بعصامية ومجهود ذاتي القراءة، ثم التحق بأحد المصانع، حيث سطع نجمه في الحركة العمالية، حيث ارتقى سريعا في مناصب المسؤولية داخل اتحاد "ساو بيرناردو" لعمال المعادن، حتى سار قائد المنظمة في سن الـ30 من العمر. على الصعيد السياسي، أسهم في 1980 في تأسيس حزب العمال اليساري، الذي خاض باسمه الانتخابات الرئاسية ثلاث مرات، 1989 و1994 و1998، قبل الفوز في انتخابات 2002 بأكثر من 52 مليون صوت.
قضى دا سيلفا ولايتين في رئاسة البرازيل، بدءا من 2003 حتى 2011، حولته أعوام الحكم من "المحرض إلى موفق ممتاز"، فقد استبعد من معجمه الشعارات الأيديولوجية لليسار "وقف سداد الديون، إعادة توزيع الثروة..."، وعمل على صياغة نفسه بتهذيب شعره، وارتداء البدلات الرسمية، حيث استحق لدى الإعلاميين والخبراء وصف "الرئيس التنفيذي المؤثر في الناس، وصديق الطبقة الوسطى، والقدوة لديمقراطية السوق القائمة على القواعد".
اعتمد في حكمه على أسلوب براغماتي قاس يسعى نحو تحقيق نهضة الجميع، ما حول لولا إلى "أيقونة للجميع"، خاصة بعد نجاحه في صناعة معجزة البرازيل، بتحقيق نتائج باهرة، تمثلت في تسجيل متوسط معدل نمو للناتج المحلي الإجمالي يقرب من 4 في المائة، طوال فترة ولايته. فضلا عن تفوقه في محاربة الفقر واللامساواة، شاهرا سيف التحدي في وجه آراء الخبراء، وتوصيات المؤسسات الاقتصادية الدولية.
اختار الرجل إنشاء "صندوق الأسرة" الذي تولى من خلاله تقديم إعانات مالية مباشرة للأسرة الفقيرة، وقرن الاستفادة من المساعدة بالتزام الأسرة بجملة من الشروط "التلقيح، التعليم، الصحة الإنجابية...". نجحت الفكرة في تغيير وجه البرازيل، بعدما حققت ما عده الأكاديمي البرازيلي ماتياس سبيكتور "أكبر تغيير مدته عشرة أعوام للتركيب الطبقي في البلاد، منذ اليابان بعد الحرب العالمية الثانية"، إذ ساعد الصندوق على انتشال 36 مليون شخص من براثن الفقر العام.
يتهم الخلان قبل الخصوم دا سيلفا في الرئاسة بالردة عن الالتزام الحزبي والطبقي، والتفريط في الأسس والمبادئ لمصلحة "الشعبوية ذات المبادئ المالية"، وهذا ما لا ينفيه مطلقا، إذ يقول، "لا أشعر بالخجل عندما أخبرك أنه في ظل حكومتي فاز الجميع، من أفقر الناس إلى أغنى الأثرياء". وفي السياق ذاته يضيف، "في بعض الأحيان كان الرفاق السابقون يأتون إلي ويقولون، لولا! ألم تكن عاملا في الحديد والصلب؟ ألا تنزعج لأن المصرفيين يحققون مثل هذه الأرباح الطائلة؟!".
يشرح الرجل بكل بساطة كيف أسهمت تجربة الصندوق في تقليص الفوارق الطبقية، بإعادة توزيع جديد للثروات، بحيث يستفيد جميع فئات المجتمع البرازيلي، الفقراء والأغنياء على حد سواء، بتحريك الدورة الاقتصادية، "الأشخاص الذين حصلوا على إعانات من الصندوق 80 في المائة منهم اشتروا جهاز تلفزيون، و79 في المائة منهم اشتروا ثلاجة، و50 في المائة منهم اشتروا غسالة ملابس. ومن ثم فما بدا كأنه برنامج فقط للأشخاص الذين يعيشون في ظروف القرن الـ18، قد ساعد على تلبية احتياجات الشركات المصنعة الحديثة، وتوليد الملايين من فرص العمل، وبذلك فاز الجميع".
تؤكد تقارير الخبراء الاقتصاديين الذين تولوا دراسة تجربة صندوق الأسرة، أن نمو الناتج المحلي الإجمالي في البرازيل يزداد، بواقع 1.78 ريال عند كل مرة يحدث فيها صرف تلك المساعدات. بذلك يظهر أن آثار الصندوق لم تقتصر على فئة الفقراء، بل امتدت نحو الأغنياء، من خلال تحريك أكبر للاقتصاد في البلد. بهذه التجربة يثبت دا سيلفا أن خيار إعطاء السمك - حسب المثل الصيني - قد يكون حلا، متى كان ذلك ضمن سياق وشروط "عدالة الأم".
نعم، فالفلسفة التي شكلت مرجعية لولا دا سيلفا في السياسة كانت في جوهرها هي فلسفة الأم، "لا أحد أكثر عدالة من الأم" يقول الرجل، ويضيف، "أريد أن يعرف الناس أن فلسفتي في جوهرها هي فلسفة الأم. لا أحد أكثر عدالة من الأم".
بهذه الشرعيات المتنوعة، شرعية التاريخ والنضال والإنجاز، يتوجه لولا دا سلفا نحو البرازيليين من أجل الاختيار في النزال الانتخابي، نهاية الشهر الجاري، ما بين فلسفة الأم أو فلسفة السوق. فلأي منهما ستكون الكلمة يا ترى؟

الأكثر قراءة