البيروقراطية اليابانية وأزمة الثقة بعد آبي
لم يكن لأحد أن يتوقع أن تتدهور شعبية رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا، إلى هذا الحد بعد فترة وجيزة من انتصار الحزب الديمقراطي الليبرالي في انتخابات تموز (يوليو)، لاختيار أعضاء مجلس الشيوخ في البرلمان الياباني. حتى وقت قريب، كانت مستويات شعبية حكومة كيشيدا مرتفعة على نحو ثابت. لكن ارتباطات الحزب الديمقراطي الليبرالي بجماعة دينية مثيرة للجدال، إلى جانب جنازة رئيس الوزراء السابق آبي شينزو، الرسمية باهظة التكلفة، تسببت في زعزعة قاعدة كيشيدا السياسية، ما عرض لخطر التعافي الاقتصادي الهش في اليابان. بحسب أكيرا كاواموتو نائب المدير العام السابق في وزارة الاقتصاد والتجارة والصناعة اليابانية، المدير الرئيس السابق لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وهو أستاذ في جامعة كيو.
السببان الرئيسان وراء انخفاض مستويات شعبية كيشيدا مترابطان. فبعد اغتيال آبي أثناء حدث انتخابي في نارا في تموز (يوليو)، أفادت المنافذ الإعلامية بأن قاتله كان يضمر رغبة شخصية في الانتقام ضد كنيسة التوحيد، الحركة الدينية التي أصبحت علاقاتها الوثيقة بالمشرعين في الحزب الديمقراطي الليبرالي الآن، في قلب فضيحة سياسية كبرى. كانت علاقات الحزب الديمقراطي الليبرالي بكنيسة التوحيد والجدال الذي أحاط بجنازة آبي الرسمية، من الأسباب التي دفعت كثيرين إلى فقدان الثقة بالحكومة.
يأتي تدهور شعبية كيشيدا في وقت حيث أصبحت الثقة الشعبية مطلوبة لمحاربة التضخم. لا يبشر هذا بخير للاقتصاد الياباني، الذي تعافى من جائحة مرض فيروس كورونا 2019 كوفيد - 19 ببطء، مقارنة بأغلب الاقتصادات المتقدمة. عاد الناتج المحلي الإجمالي الياباني إلى مستويات ما قبل الجائحة في النصف الأول من 2022، بعد عام واحد من الولايات المتحدة. وعلى الرغم من ازدياد مؤشر أسعار المستهلك في اليابان بأكثر من 2 في المائة طوال خمسة أشهر متتالية ـ وهو ارتفاع حاد وفقا للمعايير اليابانية ـ فإن الطلب الكلي يظل أضعف من أن يسمح لبنك اليابان بإلغاء السياسة النقدية مفرطة التساهل التي أبقى عليها منذ أطلق آبي برنامجه الاقتصادي "اقتصاد آبي" في 2013.
مع إقدام بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي والبنك المركزي الأوروبي، على رفع أسعار الفائدة لترويض التضخم، تسبب تباعد السياسة النقدية في انخفاض قيمة الين بسرعة. وبسبب التباطؤ الاقتصادي في الولايات المتحدة والصين ـ الشريكين التجاريين الرئيسين لليابان ـ يتعين على اليابان أن تبتكر سياسات الاقتصاد الكلي التي تستهدف تعزيز الطلب. ينبغي لصناع السياسات في اليابان أيضا الضغط على أصحاب العمل لحملهم على زيادة الأجور بما يتماشى مع التضخم، كما فعل كيشيدا عدة مرات، خاصة في صناعات رعاية كبار السن، ورعاية الأطفال، حيث الـغـلـبة لحضور القطاع العام.
تكمن المشكلة الأساسية في توقعات التضخم الغريبة والمحافظة في اليابان، التي يمنع تشكيلها معدل التضخم من الارتفاع. للتخفيف من هذا، يضيف كاواماتو، ينبغي لصناع السياسات أن يعكفوا على بناء استراتيجية قادرة على تغيير عقلية عامة الناس، على سبيل المثال، من خلال توليد روايات إيجابية حول الاقتصاد في ظل معدل تضخم معقول. أفضت زيادات الأجور البطيئة وشبه الانكماش إلى عقود متواصلة من الركود الاقتصادي. والآن حان وقت تغيير المسار.
مع فشل إصلاحات عصر آبي البنيوية ـ "السهم الثالث" في جعبة اقتصاد آبي ـ في تعزيز النمو الاقتصادي، بات لزاما على صناع السياسات في اليابان تنفيذ سياسات داعمة للنمو أكثر فاعلية. لتحقيق هذه الغاية، ينبغي لهم أن يعملوا على إنشاء آلية حكومية يمكن التعويل عليها لدعم الزخم الإصلاحي، كما اقترحت مجموعة أعمال بارزة في آب (أغسطس)، وتفويض التحسين المستمر للسياسات المعمول بها، استنادا إلى مراقبة تأثيرها.
يتطلب توجيه الاقتصاد الياباني عبر الاضطرابات العالمية الحالية التحلي بالحكمة والشجاعة. لكن من المؤسف أن كلا العنصرين غير متوافر. بعد انتخابه العام الماضي، كان من المتوقع أن يتعاون كيشيدا مع آبي، زعيم أكبر فصيل في الحزب الديمقراطي الليبرالي، في تفعيل أجندته الاقتصادية. لكن وفاة آبي المفاجئة أوجدت فراغا سياسيا معوقا. ولا يساعد أسلوب كيشيدا في القيادة السلبية، كما أن البيروقراطية اليابانية ـ التي لا تزال مؤتمنة على صنع السياسات الفعلية ـ ليست في وضع يمكنها من تولي زمام القيادة. الأمر ببساطة أن قادة اليابان يبدون عدم الاستعداد لاتخاذ الخطوات الجريئة اللازمة.
لم تكن هذه هي الحال دوما. ففي خمسينيات القرن الـ20، لعبت السياسة الصناعية الوطنية دورا بالغ الأهمية في رفع الاقتصاد الياباني من الخراب في زمن الحرب إلى الصدارة العالمية. في ثمانينيات وتسعينيات القرن الـ20 ساعد الدعم الحكومي اليابان على شق طريقها عبر حرب تجارية مع الولايات المتحدة. أثناء إدارة آبي وخليفته يوشيهيدي سوجا، فرض مكتب رئيس الوزراء إرادته على عديد من الوزراء، حتى إنه تدخل في تعييناتها التنفيذية. أربك هذا النهج في ممارسة السلطة عديدا من المسؤولين رفيعي المستوى، حتى بات من المعتاد أن ينفذوا توجيهات رؤسائهم السياسيين، بصرف النظر عن مدى جدارتهم في صنع السياسات.
على النقيض من ذلك، أعطى كيشيدا الوزراء مساحة أكبر. لكن إدارته عرضت البيروقراطية للضغوط من جانب ساسة المقاعد الخلفية في الحزب الديمقراطي الليبرالي، الذين استسلموا في الأغلب للضغوط من جانب المصالح الخاصة. علاوة على ذلك، يتعرض موظفو الخدمة المدنية على نحو مستمر للتخويف والترهيب من جانب الساسة من أحزاب المعارضة الذين يحاولون تسجيل نقاط سياسية عن طريق قصفهم بأسئلة تافهة في الأغلب أثناء جلسات البرلمان.
تملك السأم من المسؤولين الحكوميين الأكثر شبابا إزاء إلزامهم بإبداء الاحترام المفرط لمديريهم السياسيين وشعورهم الدائم بالاستخفاف بـقـدرهم، فاتجهوا على نحو متزايد إلى الاستقالة من وظائف الخدمة العامة. وفقا لهيئة الأفراد الوطنية في حكومة اليابان، تزايد عدد الأشخاص الذين تركوا وظائف الصفوة بعد عشرة أعوام من الخدمة بنحو 43 في المائة خلال الفترة من 2013 إلى 2020. وفي حين كانت الجامعات المرموقة تخدم ذات يوم كقنوات تجنيد للموظفين الحكوميين المحتملين، فإن عدد طلاب جامعة طوكيو الذين اجتازوا امتحان القبول لوظائف الخدمة العامة الرفيعة، انحدر بما يقرب من النصف خلال الأعوام العشرة الأخيرة.
ماذا يفعل كيشيدا إذن لاستعادة ثقة الجماهير؟ بادئ ذي بدء، يمكنه حل مجلس النواب في البرلمان الياباني وإعلان انتخابات مبكرة. وفي ظل ضعف المعارضة إلى الدرجة التي تعجز معها عن تحدي الحزب الديمقراطي الليبرالي، يستطيع كيشيدا الفوز. لكن هذا لن يساعده للتغلب على عقبة عجز الثقة. لتحقيق هذه الغاية، ينبغي له أن يتخذ خطوات أكثر جرأة، مثل إعادة توزيع وزاراته وتعيين من تقل أعمارهم عن 60 عاما فقط، على أن يكون نصفهم من النساء. ينبغي له أيضا أن يعمل على اجتذاب الموظفين من القطاع الخاص. وهذا من شأنه أن يشير إلى انفصال واضح عن حكم الشيوخ في الحزب الديمقراطي الليبرالي، الذي يقرنه الناخبون بالحكم الهزيل والافتقار إلى الشفافية.
تقدم أزمة الثقة الحالية أيضا الفرصة للبيروقراطية اليابانية. أجبر نقص موظفي الخدمة العامة المخضرمين، الهيئات الحكومية على البحث في أماكن أخرى عن المواهب بين الموظفين في منتصف حياتهم الوظيفية. ويتعين على القطاع العام في اليابان أن يبادر إلى تنفيذ إصلاحاته الخاصة. إن الخدمة المدنية الأكثر انفتاحا وشفافية قادرة على اجتذاب المحترفين الشباب الموهوبين الطموحين مرة أخرى، وتعزيز الثقة بقادة اليابان.