أبعاد الاتفاقية اللبنانية - الإسرائيلية لاستخراج الغاز
يقف لبنان على بعد خطوات من توقيع اتفاق مع إسرائيل، يتعلق بترسيم الحدود بين الدولتين، في محادثات غير مباشرة، بعد انقطاع أي محادثات عقب حرب حزيران (يونيو) 2006، استمرت لنحو عامين عبر وساطة بدأت من الأمم المتحدة ثم تولت مهمتها الإدارة الأمريكية فيما بعد. مبادرة الحوار الأممية بين طرفي النزاع جرت بمباركة إيرانية، من منطلق "السكوت علامة الرضا"، ومباركة حسن نصرالله مندوبها الدائم في لبنان الأمين العام لميليشيا حزب الله اللبناني المسيطر على السلطة والنفوذ في الدولة اللبنانية، الذي يرى أن هذا الاتفاق سيكون بمنزلة طوق نجاة من الأزمة الاقتصادية الشديدة، التي تعيشها البلاد، لتكون أبعاد الاتفاق التنقيب عن الغاز من حقول كاريش وقانا، للخروج من الأزمات الكبيرة، التي يعيشها لبنان، بعد تسليم مفاتيحه للولي الفقيه في طهران، لتصبح الحكومة في بيروت في حالة "اللا حرب واللا سلم" مع إسرائيل.
المحادثات أثارت استغراب كثيرين، وسخط آخرين في الجهة الأخرى، إذ عدها اليمين المتطرف الإسرائيلي باطلة، متخذا إجراءات قضائية لإبطال الاتفاق، بعد أن قرر حزب الصهيونية الدينية التوجه إلى المحكمة الإسرائيلية العليا طالبا إبطاله، فيما وصف بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق الاتفاقية بأنها "استسلام تاريخي"، عادا يائير لابيد رئيس الحكومة الحالي وافق على كل المطالب اللبنانية، وكان خائفا، ولهذا السبب استسلم، متهما الرئيس الأمريكي جو بايدن ورئيس وزراء بلاده الحالي بأنهما وضعا له العراقيل للخروج من تصدر المشهد السياسي في إسرائيل، عادا الاتفاق مع لبنان "مصيدة"، وأنه لن يحترم الاتفاق مع لبنان في حال انتخب رئيسا لوزراء إسرائيل.
الرغبة الأمريكية تميل إلى توقيع الاتفاق بأسرع وقت ممكن، بعيدا عن حسابات الانتخابات الأمريكية أو حسابات انتخابات الكنيست الإسرائيلي، التي قد تعيد نتنياهو إلى رئاسة الحكومة الإسرائيلية مجددا، ما يتسبب في العراقيل لهذا الاتفاق، الذي وصفه آموس هوخشتاين الوسيط الأمريكي بـ"التاريخي"، كما أثنى على هذا الوصف رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي، عادا الاتفاق بمنزلة ضمانة لتعزيز أمن إسرائيل، وسيولة مالية تضخ مليارات في خزينة الدولة، مؤكدا أن الطرف اللبناني وافق على جميع مطالب إسرائيل في مفاوضات ترسيم الحدود البحرية، بما يتوافق مع المصالح والأولويات الأمنية لتل أبيب، بعد أن انخفضت وتيرة التوتر بين إسرائيل وحزب الله، التي أدت إلى رفع حالة التأهب القصوى في مراحل المحادثات النهائية، حيث سيلتزم لبنان بتقديم جزء من أرباح حقل قانا إلى إسرائيل من قبل الشركة العاملة على استخراج الغاز "توتال" الفرنسية.
بدوره، أكد بيني غانتس وزير الدفاع الإسرائيلي، "لم ولن نتنازل عن مليمتر واحد من الأمن"، والاتفاق يتقدم رغم تهديدات حزب الله الإرهابي، الذي حاول عرقلة الاتفاق، مبينا أن الجيش الإسرائيلي وقوات الأمن يعملان طوال الوقت وفي جميع الجبهات من أجل الدفاع عن الكيان وموارده، والسماح بمجرد حياة اعتيادية، مرحبا بإعلان الرئيس اللبناني بقبول الاتفاق، مشيرا إلى أن بلاده معنية بلبنان كجار مستقر ومزدهر، والاتفاق نزيه وجيد لكلا الجانبين. فيما شهدت المفاوضات تعهدا أمريكيا بحرمان حزب الله من أي أرباح في حال استهدافه أي مصالح إسرائيلية، إضافة إلى تقديم ضمانات أمنية لإسرائيل، التي تعد الاتفاق لا يحدد صيغة نهائية لوضع المناطق الحدودية البرية المتنازع عليها، كما تعد التعديل الذي أجري في اللحظة الأخيرة فيما يتعلق بالعوامات البحرية، التي وضعتها تل أبيب لترسيم حدودها البحرية، ليس رسميا.
الاتفاق ليس بمنزلة معاهدة سلام، لكن مصالح اقتصادية مشتركة للطرفين، راسخة في الحفاظ على الهدوء في مناطقهما الحدودية المشتركة، لتدخل المنطقة مرحلة جديدة من الهدوء والاستقرار، بعد عقود من الحروب والاضطرابات والتوترات كان للبنان وإسرائيل حصة كبيرة منها، ليعيش اليوم لبنان مرحلة مستقرة بحريا على صعيد الحدود ستكون البوابة إلى اتفاق آخر بري، وربما معاهدة سلام، بعد ازدياد فرص خفض التهديدات القائمة منذ زمن بعيد وكانت تتوعد لبنان بعدوان إسرائيلي في كل مرة.
لبنانيا، على الرغم من الأرباح التي سيحققها الاتفاق من حقول الغاز، إلا أن ردود الفعل الشعبية محبطة وجلها في الاتجاه السلبي، وتستند النظرة الشعبية غير المتفائلة إلى الاتفاق بأنه سيعود بالنفع على شبكة المحسوبيات لرجال السياسة وأصحاب النفوذ والمحاصصة الطائفية، ولن يعود ذلك على البلاد بخير، فيما تشير الدراسات الميدانية الأولية إلى أن لبنان لن يلمس أثرا مباشرا باستخراج الغاز من حقوله، لعدة اعتبارات، أبرزها أن الدولة غارقة في الديون، وتعيش حالة فشل اقتصادي، ما سيترتب عليه تعاف بطيء من أرباح عملية استخراج الغاز، لكن من المؤكد على المدى المتوسط إلى البعيد، وفي حال عدم حصول أي خروقات تمس الاتفاق من كلا الطرفين، ستساعد أرباح حقول الغاز على التخفيف من حدة الأزمة الاقتصادية، وستمهد لها الطريق للتعافي الاقتصادي، ولن تقتصر المكاسب على العائدات من حقول الغاز الفعلية، بل ستشمل أيضا قطاعات ذات صلة، وتسهم في زيادة فرص العمل بصورة عامة.
هذا الاتفاق سينهي حتما فكرة العمل باتفاقات عربية - عربية، وقعها لبنان سابقا مع الأردن ومصر على أن يتم تزويده بالغاز من مصر والكهرباء من الأردن، لكن قبل توقيع الاتفاقية مع إسرائيل كانت فرص نجاح الاتفاق العربي - اللبناني ضئيلة، والسبب قانون قيصر الأمريكي، الذي يفرض عقوبات على الدول التي تقيم تعاملات واسعة مع سورية، إضافة إلى تهديد واشنطن للقاهرة وعمان بقطع المساعدات المالية عنهما في حال الاستمرار في هذه المشاريع.
يظهر الاتفاق أن العلاقات بين لبنان وإسرائيل في حالة رمادية بين "اللا حرب واللا سلم"، لكن لا أحد يعلم إلى متى ستدوم هذه الحالة، في ظل خضوع إرادة لبنان أو جزء مهم منه لإيران، التي تفرض نفسها على الساحة، في الوقت الذي اجتازت فيه مرحلة إنتاج المواد الانشطارية النووية، إضافة إلى قدرتها على إنتاج الرؤوس القادرة على حمل القنابل النووية خلال عام أو عامين، وفقا لتوقعات باحثين في وكالة الطاقة الذرية، تهدف تل أبيب إلى مزيد من الضغط بهذه الاتفاقية، لإبعاد إيران عن سورية، كما أنها مستعدة للدخول في اتفاقيات اقتصادية مشابهة مع سورية.
إلى ذلك، علق بسام ياسين الرئيس السابق للوفد اللبناني للمفاوضات مع إسرائيل بين 2020 و2021، على الاتفاق، عاده أقل فائدة فيما يتعلق بالمكاسب من اتفاق 1983، تحديدا فيما يعرف بالفقرة (ب)، التي كانت أفضل في المنطقة المعنية بأكملها ومنطقة إضافية تقع إلى الجنوب منها كانت ستقع تحت السيطرة الأمنية اللبنانية، مشيرا إلى أن الاتفاق الجديد أبقى نقطة الناقورة والنفق السياحي تحت الاحتلال الإسرائيلي، وتم تأجيل البحث فيها إلى أجل غير مسمى، حيث لن تأتي فرصة سانحة أخرى لحل هذه المعضلة كما هي الحال الآن، والسبب حاجة إسرائيل الملحة إلى استخراج النفط والغاز حاليا من حقل كاريش.