استضافة كأس العالم بالأرقام .. مكاسب سياسية واقتصادية

استضافة كأس العالم بالأرقام .. مكاسب سياسية واقتصادية

لم يلتفت رجال الإعلام والصحافة وهم يغادرون ملعب الـ"فيلودروم" في مدينة رانس الفرنسية، إلى التحيات النازية والفاشية التي أحاطت بالاستاد، ولم يتوقفوا كثيرا عند وقوع النمسا تحت الاحتلال الألماني قبل المونديال بثلاثة أشهر فقط، كل ما شغلهم بعد مشاهدة مباراة هنغاريا وجزر الهند الشرقية الهولندية "إندونيسيا" حاليا، أن الأخيرة بعد خروجها من المنافسة إثر الهزيمة، كلفت فرنسا 400 ألف فرنك "العملة وقتها" في مباراة واحدة، أي 4500 فرنك للدقيقة كما خرجت مانشيتات بعض المجلات.
لكن فرنسا التي تحملت تكاليف سفر كل منتخبات كأس العالم 1938 باعتبارها الدولة المنظمة، لم تتأثر بالهجوم، خاصة أن التنظيم جاء بعد صراع شرس مع الأرجنتين دفع الأخيرة إلى الانسحاب من المشاركة وتضامن معها دول المكسيك وأمريكا وكولومبيا، أما باريس فأدركت أن استضافة هذا الحدث يعطيها مزيدا من الزعامة العالمية وسط قادة أوروبا، مستلهمة ذلك من موسوليني الذي أصر على استضافة النسخة السابقة 1934 لترسيخ صورته كزعيم لإيطاليا.
لم يقتصر المونديال عند حدود المكاسب السياسية فقط، فسرعان ما تدخل الاقتصاد بقوة، وأصبحت المسابقة الأشهر تدر ملايين الدولارات على الدولة المنظمة، وهو ما أدركته البرازيل التي استغلت عدم استعداد أي دولة أوروبية لتنظيم كأس العالم بسبب آثار الحرب العالمية الثانية، فاستضافت نسخة 1950 وكان أبرز العوائد وقتها إنشاء بنية تحتية من طرق وملاعب تميزت بها بلاد السامبا لأكثر من ثلاثة عقود.
بدخول البث التلفزيوني الذي نقل البطولة لأول مرة في 1954، وتبعه مجال الإعلانات الذي وجد في الحدث العالمي أكبر فرصة للتسويق، تغيرت الخريطة بالكامل، فتنظيم المونديال صار يعني قنوات ناقلة ورعاة رسميين وإعلانات تجارية، أي ببساطة مئات الملايين من الدولارات للدولة المنظمة، وفي كتابه "كرة القدم بين الشمس والظل"، يقول الكاتب الأورغواني إدواردو جوليانو، إنه مع بداية التسعينيات استوحش الأمر للدرجة التي باتت مواعيد المباريات تحدد بناء على أكثر الساعات مشاهدة في التلفاز، وهو ما دفع نجم مثل مارادونا إلى الاعتراض للدرجة التي حاول فيها تأسيس كيان شبه نقابي للتصدي لذلك.
في النهاية هزم مارادونا بعد أن تخلت عنه "اليد العليا" وتعاظم دور البطولة الأشهر عالميا وتعاظم اقتصادها للدرجة التي كلفت أمريكا 500 مليون دولار لتنظيمها في 1994، وهو ما تضاعف لاحقا، لكن تلك الأموال لم تذهب في الفراغ، ففي الوقت الذي تحملت اليابان سبعة مليارات دولار لتنظيمها المونديال مع كوريا الجنوبية في 2002، كان عوائد البث التلفزيوني فقط 999 مليون دولار.
ويمكن اعتبار ثورة الاتصالات التي شهدتها الألفية الثانية محطة لإشعال التنافس بين جميع الدول لتنظيم المونديال الذي بات يعني الكثير، فالمكاسب تراوحت من تطوير البلد المنظم وتحديث البنية التحتية الخاصة به من طرق وشبكة مواصلات، ووصولا إلى توفير فرص عمل وإشغال الفنادق والمطاعم وخطوط الطيران واستوديوهات النقل التلفزيوني، فضلا عن تعزيز الصورة العالمية للمستضيف والتعرف عليه وهو ما ينعكس سياحيا بعد ذلك، والمكسب الأهم أنه حتى بعد نهاية البطولة يتبقى ما تم من نهضة في خدمة المواطن لتحسين حياته.
يدلل على ذلك الأرقام، ففي 2006 حين نظمت ألمانيا النسخة الـ18، أنفقت 4.5 مليار دولار لتطوير بنيتها التحتية وتجهيز الملاعب ووسائل النقل، ومقابل ذلك جنت أرباح بلغت أربعة مليارات دولار، اثنان منها إيرادات سياحية بحسب موقع ستاتيستا، وفي 2010 تطورت فلسفة اقتصاد المونديال فلم تعد قاصرة على الدول المستعدة للتنظيم، بل أصبحت وسيلة لمساعدة الدول على النهوض مثلما حدث حين منحت جنوب إفريقيا حق الاستضافة، وهو ما دفعها إلى إحداث تغيير كبير على مستوى الخدمات في البلد الفقير، إذ أنفقت 3.6 مليار دولار تمت ترجمتها بعد ذلك في أرباح 2.5 مليار دولار وتوفير 50 ألف فرصة عمل.
تلك الأرقام تضاعفت في آخر ثلاث نسخ، فإذا كانت البرازيل قد أنفقت 15 مليار دولار في 2014، وتحملت روسيا 11.6 مليار دولار في 2018، فقد وصل الأمر مع قطر التي تستضيف النسخة الجديدة في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل إلى إنفاق 220 مليار دولار، كأكبر مبلغ تتحمله دولة لتنظيم المونديال، لكن بالطبع تلك أرقام لم تنفق عبثا فالمكاسب متعددة والطموحات كبيرة، والسؤال في وسط هذا التنافس الشرس، هل قصدت أوكرانيا حين قدمت ملفا مشتركا مع إسبانيا والبرتغال لتنظيم كأس العالم 2030، أن يكون المونديال هو طوق النجاة لإعادة اقتصادها كما كان قبل الحرب، أم أنها مجرد مناورة سياسية من زيلينسكي أراد فيها القول إن بلاده لن تسقط أبدا؟

الأكثر قراءة