المملكة المتحدة .. شرط الهوية أم شرط الطبقة؟
نجح حزب المحافظين في بريطانيا في معاكسة المد اليميني القومي الذي يغزو القارة الأوروبية، بإسناد قيادة الحزب ثم رئاسة الوزراء إلى ريشي سوناك، الآسيوي الهندوسي ذي الملامح البنية، أملا في إيقاف تهاوي حكومات المحافظين، من المسيحيين الأنجليكان ذوي البشرة البيضاء، فقد حظيت المملكة بثالث رئيس وزراء خلال شهرين فقط، وباتت مرشحة لمنافسة إيطاليا على لقب الدولة صاحبة أقصر عمر للحكومات.
احتفى كثيرون، في الخارج قبل الداخل، بالنموذج البريطاني القابل للدمج والتعددية، بإتاحة فرص الظفر بأعلى المناصب في الدولة والنظام السياسي البريطاني لأبناء المهاجرين، كما حصل مع صادق خان الباكستاني المسلم عمدة لندن، وحمزة توزال ذي الأصول المغربية عمدة مقاطعة وستمنستر، أغنى مقاطعة في المملكة المتحدة، في زمن تزداد فيه موجات العنصرية واضطهاد المهاجرين عالميا.
انتزعت بريطانيا انتصارا رمزيا في الأوساط الأوروبية، بعد ظهور المملكة، ومن ورائها حزب المحافظين بمظهر الدولة التي استطاعت تجاوز تاريخ العنصرية المهين، لدرجة أصبح فيها شخص من الأقليات الآسيوية في رأس الهرم السياسي للمستعمرة السابقة لبلاد أجداده، حيث كانت أمنية حينذاك أن يعمل الهندي النابغ حاجبا أو خادما عند سيده الإنجليزي، إنها - بحسب المراقبين - حتمية التاريخ، ونهوض الأمم ومكافأة المجتهدين.
مشهد خفي من تتويج سوناك
لا ينبغي للإشادة والتنويه الدوليين اللذين رافقا بلوغ ريشي سوناك رئاسة الوزراء أن يخفيا الجانب الآخر من مشهد سياسي معقد داخل المملكة. فالحديث عن شرط الهوية "الأصل واللون والديانة" يبقى ثانويا، أمام شرط الطبقة، أي الانتماء إلى البرجوازية، الذي يظل ثابتا ينبغي تحقيقه. وبات بمقدور هذا الشرط أن يجب ما قبله، فقد سبق ريشي إلى المنصب رئيس وزراء من أصول تركية، والحديث هنا عن بوريس جونسون، الذي كان جده الأكبر علي كمال رئيس تحرير صحيفة "إقدام" التقدمية أواخر العصر العثماني، ولاحقا وزيرا للداخلية بعد عزل السلطان عبدالحميد الثاني.
رغم أصوله الآسيوية، يبقى ريشي سوناك من طينة النموذج التقليدي للقيادات التي ينتجها حزب المحافظين، في بريطانيا لتولي رئاسة الوزراء، فهو من أبناء الأثرياء الذين تخرجوا من المدارس النخبوية "وينشستر كوليدج"، وحملة الشهادات الجامعية من أكسفورد وستانفورد المرموقتين. فهو إذن سليل مدرسة المحافظين من ناحية التكوين والانتماء والمسار المهني، وإن لم يكن كذلك من حيث الهوية، وهذا ليس بعائق أبدا، فالولاء الطبقي عابر للهويات والأصول.
أقلية المهتمين انتبهت، طي الحديث عن الإنجاز، إلى ثروة هذا المصرفي الذي يعد من الأقليات فعلا، لكنه يمتلك برفقة زوجته الهندية أكشاتا موتي زهاء 730 مليون جنيه استرليني "830 مليون دولار"، وفقا لقائمة الأثرياء التي نشرتها صحيفة "الصنداي تايمز" لهذا العام. ما في نصيب الزوجين يمثل ضعف ثروة الملكة الراحلة اليزابيت الثانية، التي قدرت بنحو 370 مليون جنيه استرليني "420 مليون دولار". كانت حصة مورتي في شركة والدها نارايانا مورتي، الملياردير الهندي الشهير، أساس ثروة عائلة سوناك.
مصرفي بمسار سياسي استثنائي
يحمل ما سبق تفسيرا للمسار الاستثنائي، في الترقي السياسي السريع بالشروط السياسية البريطانية، وصولا إلى رئاسة الوزراء. فالشاب الهندي، ذو 42 عاما، عمل مصرفيا استثماريا ثم مديرا لصندوق التحوط، قبل أن يدخل البرلمان البريطاني 2015، ممثلا عن دائرة ريتشموند في مقاطعة شمال يوركشاير في شمال شرق المملكة المتحدة.
صوت الرجل في استفتاء 2016 لمصلحة خروج بريطانيا من التكتل الأوروبي. دخل معترك التدبير مع حكومة تيريزا ماي، عندما أسند إليه منصب وزاري صغير، وكيل الشؤون البرلمانية في وزارة الإسكان. ثم برز إلى الأضواء في حكومة بوريس جونسون الذي عينه سكرتيرا أول - الرجل الثاني - في وزارة المالية. قرأ كثيرون التعيين حينها، بمنزلة رد للجميل، على تأييد ودعم سوناك لجونسون نحو رئاسة الوزراء.
للحظ حضور في مسيرة الرجل، فاستقالة ساجد جاويد وزير المالية، على خلفية الصدام مع دومينيك كاميتجز، المستشار الخاص لجونسون، كانت هدية من السماء لسوناك الذي أصبح وزيرا للمالية، وثاني أقوى رجل في السياسة البريطانية، بدءا من شباط (فبراير) 2020، وتعزز حضوره أكثر بتزامن توليه الوزارة مع اجتياح جائحة كورنا العالم، ليرتقي من مجرد وزير إلى رجل المرحلة الذي أدار الأزمة بمهنية واحتراف، مكنته من ضمان استقرار اقتصاد المملكة المتحدة.
عززت استقالته المفاجئة من المنصب، عقب فضيحة "بارتي جيت"، مكانته داخل حزب المحافظين وفي أوساط البريطانيين. ولا سيما أنها شكلت، بشكل غير مباشر، ورقة ضغط قوية، دفعت صديقه بوريس جونسون إلى مغادرة منصب رئاسة الوزراء. فقد بدا سوناك لحظتها بصورة السياسي المبدئي، الذي يقدم المصلحة العامة على العلاقات الشخصية. وكان تحفظه الشديد على خطة سلفه ليز تراس، وتوقعه مبكرا فشلها معطى إضافيا جعل منه رجل المرحلة بامتياز.
المواقف فوق كل الاعتبارات
حضر الانتماء الطبقي ممزوجا ببعض الحظ والدقة في توقيت اتخاذ القرارات، بحكم تكوينه المالي وخلفيته الاقتصادية، في وصول ريشي سوناك رئاسة الوزراء. لكن ذلك سيظل بلا نتيجة ولا أثر ما لم تكن مواقف الرجل منسجمة مع السردية العامة داخل حزب المحافظين، ومع الخطاب السياسي، المهمين في المشهد السياسي داخل المملكة المتحدة.
صحيح أن زعيم المحافظين ليس رجلا أبيض وليس مسيحيا، لكن إسناد المنصب إليه ما كان ليتحقق لولا مواقف الرجل السياسية، فالتلويح بهويته وانتمائه إلى الملونين، لا يعني بالضرورة أن يعيش حياة ومعاناة المواطن البريطاني الآسيوي العادي. أكثر من ذلك، كان صوت الملياردير إلى جانب الأغلبية في دعم وتشجيع تبني سياسات حكومية عنصرية، أضرت بالأقليات العرقية في الدولة.
وهذا الأمر ليس حكرا عليه وحده، إنما توجه سائد بين البريطانيين الآسيويين، فلا معنى للأصول والهوية والانتماء حين تكون وزيرة الداخلية من أصول هندية مدافعة شرسة عن سياسة شحن المهاجرين إلى رواندا. يتذكر الجميع أيام حكومة ليز تراس، قتال سويلا برافرمان، ذات الأصول الهندية، من أجل تحقيق حلمها المتمثل في شحن المهاجرين واللاجئين إلى رواندا. وانتقادها الشديد توقيع لندن اتفاق التجارة الحرة مع الهند، دولتها الأصلية، معتبرة الاتفاق سبيلا لرفع أعداد الهنود في بريطانيا.
يشرح ذلك ربما أسباب حصول سوناك على تأييد سياسي من قيادات المحافظين الإنجليز التقليديين، بمن فيهم شخصيات تنتمي إلى أقصى يمين الحزب، من قبيل تكتل "مجموعة الأبحاث الأوروبية" المشهور داخل المحافظين بمواقفه السياسية المتطرفة ضد الأجانب، وتأييده الخطط المعادية للمهاجرين واللاجئين.
سوناك يكرر سيناريو أوباما
عمدت قراءات إلى مقارنة ما يجري في لندن 2022، بما وقع في واشنطن، قبل أزيد من عقد من الزمن، بعد اختيار الأمريكيين مرشحا من أصول إفريقية رئيسا لهم. فانتخاب بارك أوباما جاء عقب الأزمة الاقتصادية العالمية، وقبلها النزيف المالي الداخلي بسبب حربي أفغانستان والعراق، ما دفع جانبا من الأمريكيين إلى تجاهل كل الاعتبارات بوضع ثقتهم برجل أسود، طمعا في إخراج البلاد من حافة الانهيار الاقتصادي.
تشترك الدولتان في لحظة الاضطراب، فبريطانيا لا تزال تعيش على وقع تداعيات الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، ثم مخلفات جائحة كورونا التي دفعت النظام الصحي نحو الانهيار، بسبب ارتجالية الحكومة في مواجهة الفيروس "مناعة القطيع العشوائية"، وحاليا أزمة الطاقة والغداء التي رفعت التضخم إلى مستويات قياسية، كل ذلك بسبب ارتدادات الحرب المشتعلة في أوكرانيا.
ويشترك الزعيمان الملونان، باراك أوباما وريشي سوناك في الكفاءة والخبرة والدراية بإدارة الأزمات، لكنهما يختلفان غاية الاختلاف في الرؤى والمواقف السياسية حيال عدد من القضايا. يبقى السؤال المفتوح للمستقبل، هل ينجح سوناك في تكرار سيناريو أوباما في أمريكا، على الصعيدين الاقتصادي والسياسي؟ قد يتمكن من ذلك في الشق الأول، بحكم التجربة في عالم الأعمال، حتى قيل إن سوناك ابن مارجريت تاتشر. لكن الشق الثاني يحتاج إلى إحداث ثورة تنظيمية داخل حزب المحافظين.. فهل ينتصر سوناك فيما تبقى من عمر حكومته للطبقة أم للهوية؟