"الديمقراطيون".. المصالح الانتخابية قبل المبادئ السياسية
خاب ظن المعتقدين بأن تعيد حكمة الشيوخ بعض الرشد إلى الإدارة الأمريكية، بقيادة الرئيس الديمقراطي جو بايدن "79 عاما"، بعد أعوام من حكم الجمهوري الشعبوي دونالد ترمب، فلا شيء من ذلك تحقق، رغم بلوغ ولاية الـ46 منتصفها، إذ لا تزال بلا بوصلة تضبط اتجاهات الدبلوماسية الأمريكية في العالم.
يتضح الأمر أكثر بمقارنة سريعة بين بارك أوباما وجو بايدن، فالأول استغرق عاما بعد انتخابه، حتى يضع في استراتيجيته الأولى للأمن القومي من أجل التعامل مع التحديات والأزمات التي خلفتها فترة الرئيس جورج بوش الابن. فيما شرع الثاني في تنفيذ استراتيجيته، منذ لحظة انتخابه، معتمدا في ذلك على رؤى ومواقف بشأن السياسة الخارجية زمن الحملة الانتخابية، حتى دون أن يصدر استراتيجية الجديدة للأمن القومي.
وانعكس التخبط بجلاء في مواقف الإدارة الأمريكية، لدرجة أن بعض قرارات السياسة الخارجية اتخذها الحزب الديمقراطي في عهد الرئيس بايدن تكاد تكون صادرة عن الحزب الجمهوري. ألم تستبشر أوروبا خيرا بفوز بايدن، الذي يسدل الستار - في نظرهم- على ولاية رئاسية قوامها تقلبات مزاج الرئيس ترمب. قبل أن تصطدم بالفجائية، منذ الأشهر الأولى من ولاية الرئيس، حين قررت في تصرف أحادي الجانب، الانسحاب بشكل نهائي من أفغانستان، داعيا الأفغان إلى "القتال من أجل بلادهم"، دون أي تنسيق أو تشاور مع قادة أوروبا، خلال عملية سحب القوات الأجنبية من أفغانستان.
يبدو أن إنفلونزا الشعارات الشعبوية انتشرت في صفوف الحزب الديمقراطي، بعدما كان حكرا على قيادات الحزب الجمهوري، فالممارسة السياسية، في عهد بايدن تحديدا، أثبتت بأن للديمقراطيين نصيبهم لا يستهان به في المسألة، فالسعي وراء كسب الأصوات يبيح كل شيء، بما في ذلك الوقوع في تناقضات صارخة مع الإيديولوجيا والمبادئ والقيم العريقة الوراسخة، تعود إلى 1792 تاريخ تأسيس الحزب الديمقراطي، على يد البطل القومي أندور جاكسون.
انحياز الرئيس نحو الشعبوية بين الفينة والأخرى مبرر و"مقبول"، بحسب أنصار الحزب الديمقراطي، في معرض مواجهة المد الجارف للخطاب في صفوف الجمهوريين، لكن اعتمادها خطابا تلوكه ألسن قيادات وازنة في الحزب الديمقراطي، بعضها دخل غمار المنافسة على سباق الترشح للرئاسيات أكثر من مرة، يثير أكثر من تساؤل واستفهام بشأن مرجعية الحزب الديمقراطي؟
نسي السيناتور بيرني ساندرز الديمقراطي الاشتراكي التقدمي، في سياق الصراع الانتخابي الحالي، نفسه قبل أيام، حين هاجم قرار مجموعة أوبك + تخفيض إنتاج النفط، بواقع مليوني برميل يوميا، عادا أن سياق اتخاذه مشوب بنية مبيتة من السعودية، تقصد التأثير في نتائج الانتخابات النصفية، فارتفاع الأسعار في السوق الداخلية يحرج الرئيس جو بايدن أمام الأمريكيين.
بعيدا عن الانحياز الواضح والمسبق ضد المنطقة، وهذا موقف شخصي وثيق الصلة بقناعات الرجل، نشير إلى تناقض السيناتور الديمقراطي مع نفسه، فهو من أشد المدافعين عن البيئة، ما يستوجب منه إشادة وتنويها بقرار المملكة الذي يخدم مصلحة البيئة، ويحد من مشكلات التغيير المناخي الذي تؤرق العالم بأسره، فالدفاع عن البيئة يستدعي تأييد الطاقات النظيفة بدلا من الإمعان في استخدام مصادر الطاقة التقليدية. ثم إن ارتفاع أسعار الطاقات الملوثة في السوق الدولية، يدفع نحو البحث عن بدائل صديقة للبيئة.
أضحت هذه القناعات في مهب الريح أمام معركة يوم غد، فالفوز يحتم على قادة الحزب الديمقراطي البحث عن مشجب يعلقون عليه الفشل الاستراتيجي الذريع للرئيس بايدن. وبدا التناقض الفج في كلام الرجل، حين طالب برفع العقوبات الاقتصادية على إيران، بمبرر الاعتبار الإنساني، لكونها "تؤذي الإيرانيين ولا تؤثر في النظام". تبدو إنسانية ساندرز على المقاس، فهو يرى معاناة الإيرانيين بسبب العقوبات الاقتصادية فقط، ولا يرى ما يعانونه من نظام يمعن في التنكيل بهم، غير مبال بالتعاطف العالمي مع نساء طهران المنتفضات ضد نظام المرشد لأكثر من شهر.
إنه أسلوب الكيل بمكيالين في السياسة الخارجية الأمريكية، فالسعودية بتخفيض إنتاج النفط تتجه نحو دعم روسيا في الحرب على أوكرانيا، لكن تدفق السلاح الإيراني نحو موسكو، وحضوره المشهود في يوميات الحرب الروسية الأوكرانية، غير ذي أهمية، ولا بأس من التفاهم مع إيران باتفاق نووي أو دونه، من وجهة نظر القادة التقدميين في الحزب الديمقراطي.
يبدو أن الساسة الأمريكيين، ديمقراطيين وجمهوريين، أقل اختلافا في قضايا السياسة الخارجية أكثر من أي وقت مضى، فاستراتيجية الأمن القومي لا تحضر إلا لخدمة السياسة الداخلية أولا وأخيرا. ما يؤكد بأن سياسة الولاء والأحلاف والمعسكرات إلى زوال، فالسياق العالمي الراهن، يحتم على كل دولة اتخاذ قراراتها بكل استقلالية وتجرد، بناء على ما تقتضيه مصلحتها الوطنية والقومية.