التجديد النصفي الأمريكي .. رهان استثنائي

التجديد النصفي الأمريكي .. رهان استثنائي
التجديد النصفي الأمريكي .. رهان استثنائي

يتجه الأمريكيون غدا إلى صناديق الاقتراع، في انتخابات التجديد النصفي التي تعني انتصاف ولاية الرئيس، لاختيار 435 نائبا في مجلس النواب، و35 سيناتورا عن الغرفة الأولى، أي مجلس الشيوخ الذي يضم 100 مقعد، على اعتبار أن كل ولاية لها ممثلان في المجلس، عكس الغرفة الثانية حيث تستند التمثيلية إلى معيار عدد السكان في الولاية. فضلا عن انتخاب حكام 36 ولاية من أصل 50 ولاية.
يتعدى موعد الثامن من تشرين الثاني (نوفمبر) كونه مجرد محطة انتخابية، يسعى فيها كل من الحزبين الديمقراطي والجمهوري إلى تعزيز موقعهما داخل المؤسسات السياسية، لتقترب من الاستفتاء على الحزب الحاكم، أي الحزب الديمقراطي بقيادة جو بايدن، رغم عدم وجود اسم الرئيس على الأوراق الانتخابية. وتزيد الانقسامية المنتشرة داخل المجتمع الأمريكي من أهمية الحدث، فنطاق حركة سرقة انتخابات 2020، من الرئيس ترمب لمصلحة بايدن، يتسع في أوساط الجمهوريين، فقد أضحت أكثر قوة وتجذرا داخل الحزب.
يعزز السياق الذي تنظم فيه من استثنائية الحدث، ليحولها إلى لحظة ترجيح لطموح أحد الزعيمين الديمقراطي والجمهوري، فهي آخر الفرص أمام الرئيس الأسبق دونالد ترمب، إذ بخسارتها يتبخر حلم عودة الرجل لقيادة الجمهوريين، في الانتخابات الرئاسية 2024. كما أن كسبها بمنزلة نصف الطريق أمام الرئيس الحالي الذي عبر في أكثر من مناسبة، عن نيته الترشح مجددا في الرئاسيات المقبلة.

فسيفساء المشهد الانتخابي
يبدو المشهد العام في الداخل الأمريكي شبه مألوف، على غرار كل انتخابات نصفية، إذ يتمتع الديمقراطيون في مجلس النواب بالأغلبية، 220 عضوا مقابل 212 عضوا، لكنها أغلبية بسيطة لا تتعدى تسعة مقاعد فقط. أما في مجلس الشيوخ، فالحزبان يقتسمان المقاعد مناصفة، مع ترجيح لصوت نائبة الرئيس كاميلا هاريس. ويتفوق الجمهوريون على الديمقراطيين على مستوى الولايات، حيث توجد 28 ولاية تحت قيادة حكام جمهوريين، في حين لا يحكم الديمقراطيون سوى 22 ولاية.
تركيبة من شأنها أن تعلق العمل بقاعدة مشهورة في السياسية الداخلية الأمريكية، مفادها بأن من يسيطر على مجلس النواب أو مجلس الشيوخ، يسيطر على البرنامج السياسي. فامتلاك الحزب الحاكم الأغلبية يمنح الرئيس القدرة على تنفيذ برنامجه بأريحية، كما يتيح للحزب صلاحية تحديد من يقود اللجان المهمة في الكونجرس.
عادة ما يخشى الرؤساء في الانتخابات النصفية فقدان الأغلبية في المجلسين، ما يجعله شبه عاجز عن الفعل أمام سيطرة خصومه، ولا يبقى بين يديه حينها سوى ورقة الفيتو الرئاسي، لعرقلة التشريعات الأكثر تطرفا من الحزب الآخر. لكن سلاح الفيتو يظل مرحليا للخروج بأقل الخسائر، إلا أنه غير مجد عند المطالبة بأصوات الأمريكيين، ممن يصوتون بحثا عن فعل وإنجاز يؤثر في حياتهم ومعيشهم اليومي، لا عن عرقلة ومنع الحزب الآخر.
يكشف التدقيق في صورة المشهد العام داخل الكونجرس عن معطيات أخرى، غير تلك الاحتفالية المبالغ فيها بالكرنفال الانتخابي الديمقراطي في وسائل الإعلام، فمن أصل 435 مقعدا في الغرفة الثانية، يحتفظ الحزبان بمعظم مقاعدهما بأمان، فالترجيح يبقى في عدد محدود من المقاعد، بحسب الأكاديمي الأمريكي مارك جونز، "... لأن 30 أو 40 مقعدا ستحدد ما إذا كانت السيطرة على مجلس النواب ستنتقل من الديمقراطيين إلى الجمهوريين".
لا يتردد الرجل في فضح جوهر الديمقراطية الأمريكية حين يقول، "في نحو 350 من أصل 435 منطقة، لا توجد انتخابات حقيقية، لأنه عادة ما يكون هناك قفل على المرشح في تلك المقاطعات، سواء كان ديمقراطيا أو جمهوريا. هناك فقط نحو 50 إلى 80 سباقا على مجلس النواب، حيث توجد منافسة حقيقية".
مجلس الشيوخ ليس أفضل حالا من مجلس النواب، فالمقاعد 35 من أصل 100 المطروحة للتنافس خلال هذه الانتخابات، منها 12 مقعدا يسيطر عليها الديمقراطيون، و23 من نصيب الجمهوريين. هذا يفرض على الديمقراطيين الفوز بـ12 مقعدا يوم غد متى رغبوا في ضمان سيطرتهم على مجلس الشيوخ. حلم صعب المنال، استنادا إلى أرقام مارك جونز، الذي يعد أن المنافسة الحقيقة قائمة في أربعة مقاعد فقط من أصل 35 المفتوح للتباري، ويذهب به الأمر حد تسمية ولايات، نيفادا وأريزونا وجورجيا وبنسلفانيا، باعتبارها الأربعة التي يمكن للنتيجة أن تذهب في أي من الاتجاهين.

أوراق المعركة الانتخابية
جرت العادة أن يخسر الحزب الحاكم الانتخابات النصفية، إلا في حالات استثنائية قليلة، على غرار ما حدث مع الرئيس جورج بوش الابن، حيث فاز الحزب الجمهوري آنذاك بالأغلبية. دائما ما يكون التصويت العقابي من نصيب حزب الرئيس، فهو المسؤول في نظر الأمريكيين عما لحقهم من معاناة خلال العامين الماضيين. بيد أن هذه النتائج لا تحسم دوما الرئاسيات التي تليها، فما أكثر الرؤساء الذين خسروا الانتخابات النصفية، وكسبوا الانتخابات الرئاسية التي أعقبتها، أمثال، هاري ترومان 1946، ورونالد ريجان 1982، وبيل كلينتون 1994.
تتوقع استطلاعات الرأي خسارة قاسية للحزب الديمقراطي، جراء تراجع الاقتصاد، ونسب التضخم العالية، وارتفاع أسعار الطاقة وبقية السلع الأساسية... رغم سعي إدارة الرئيس جو بادين إلى التخفيف من وطأة ذلك، في الأشهر الأخيرة، بتبينها إجراءات استعجالية للتقليل من تداعياتها. ما يجعل الفرصة سانحة أمام الحزب الجمهوري، لحصد أكبر عدد من المقاعد، تخولهم فرصة تشكيل الأغلبية، ومن تم تولي رئاسة المجلس.
يبقى ما سبق مجرد توقعات، تظل نسبية على ضوء المعطيات الطارئة على الساحة السياسية الداخلية في الآونة الأخيرة. وفي مقدمتها قرار المحكمة العليا، بأغلبيتها المحافظة، إلغاء حق الإجهاض المعمول به، منذ 1973، وتحويل كل ولاية سلطة تشريعه. واستمرار التحقيقات مع الرئيس الأسبق دونالد ترمب، في واقعة اقتحام أنصاره مبنى الكونجريس، مطلع العام الماضي، لوقف عملية التصديق على نتائج الانتخابات الرئاسية التي فاز بها الرئيس الديمقراطي. فضلا عن اقتحام الفيدراليين، مقر إقامة زعيم الجمهوريين، في ولاية فلوريدا، بحثا عن مستندات سرية، نقلها من البيت الأبيض بعد خروجه.
يحاول كل حزب اللعب بأوراقه في رهان انتخابي استثنائي، بحكم السياق الداخلي والدولي، فقد طالب بايدن الأمريكيين بمنحه الأغلبية للالتفاف على اللوائح المنظمة البرلمانية التي تمنع تشريعات بعينها، فقال بصريح العبارة، "الأمريكيون لديهم الخيار"، مشيرا إلى أن الإجهاض والأسلحة النارية والنظام الصحي... كلها موجودة على "أوراق الاقتراع".
تعد مشكلة التضخم أقوى أوراق الجمهوريين، إلى جانب الهجرة والجرائم العنيفة ومكافحة المخدرات والهجوم على المتحولين جنسيا. فالتضخم أكبر المشكلات في البلاد لأنه وصل إلى معدلات قياسية، لا مثيل لها منذ ثمانينيات القرن الماضي. وذهب مراقبون إلى أن أوراق الديمقراطيين "الإجهاض، الأسلحة، النظام الصحي..." ضعيفة مقارنة بـالتضخم الذي يتذكره الناس كل يوم.
يبدو أن أخطاء الحزب الجمهوري قد تسهم في فوز الديمقراطيين أو على الأقل تقليل حجم خسارتهم، فالهجوم الذي استهدف رئيسة مجلس النواب نانسي بلوسي في بيتها، وأدى إلى تهشيم رأس زوجها، بمطرقة من يمني متطرف عنصري، من أنصار نظرية المؤامرة "تيار ماغا". يبقى أفضل دعاية للديمقراطيين، فقد تجاهل بايدن في خطبه الأخيرة الأزمات الاقتصادية والمشكلات الاجتماعية تحو التحذير من "قوى الظلام" والمخاطر التي المحدقة بالديمقراطية الأمريكية من أنصار الرئيس السابق دونالد ترمب.
أيا تكن النتيجة يوم غد، لمصلحة الديمقراطيين أو الجمهوريين، فالوقائع على الأرض تثبت أن الديمقراطية الأمريكية ليست بخير، فنطاق استخدام العنف والالتجاء للقوة في اتساع، والقابلة لرفض النتائج منتشرة "291 مرشحا جمهوريا مقتنعون بسرقة انتخابات 2020"، ما يغذي بقوة إمكانية الصراع الداخلي، بذلك يكون التهديد الأكبر لقيم الديمقراطية الأمريكية داخليا "الأمريكيين أنفسهم"، وليس خارجيا "روسيا والصين".

الأكثر قراءة