أي نوع من أوروبا تريده ألمانيا؟ .. فرنسا تتساءل

أي نوع من أوروبا تريده ألمانيا؟ .. فرنسا تتساءل
أي نوع من أوروبا تريده ألمانيا؟ .. فرنسا تتساءل

من بين التحيزات البشرية الشائعة الاعتقاد بأن الأمور كانت أفضل حالا في الماضي. لكن هذا التحيز نادرا ما يصمد أمام التدقيق، ولا تشكل التصورات المتعلقة بالعلاقات الفرنسية - الألمانية السابقة استثناء. في حين إن العلاقات الثنائية كانت منذ فترة طويلة تشكل أهمية قصوى بالنسبة إلى أوروبا، إلا أنها اتسمت دائما بالخلافات والانقسامات الشديدة، بحسب ما يرصده تقرير يوشكا فيشر، وزير خارجية ألمانيا ونائب المستشار من 1998 إلى 2005، كان زعيما لحزب الخضر الألماني لما يقرب من 20 عاما.
يعد هذا التأويل مفهوما. كانت العلاقات الفرنسية - الألمانية بمنزلة الأساس الأصلي للاتحاد الأوروبي، الذي بدأ كمجتمع للفحم والصلب في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، ولا يزال يمثل المحور المركزي للاتحاد الأوروبي. فبدون فرنسا وألمانيا - أكبر اللاعبين وأكثرهم أهمية من الناحية الاقتصادية والسياسية، ما يجسد التوازن بين الشمال الأوروبي وجنوب البحر الأبيض المتوسط ​​- لما كان من الممكن إحراز تقدم حقيقي نحو التكامل الأوروبي.
لكن مع توسع الاتحاد الأوروبي في عام 2004، أصبحت أساليب العمل الداخلية أكثر تعقيدا، حيث تمت إضافة بعد جديد إلى التوجه التقليدي بين الشمال والجنوب، أوروبا الوسطى والشرقية. لقد تزايدت أهمية هذه المنطقة الآن فقط بعد أن هاجمت روسيا دولة مجاورة ذات سيادة وشنت حربا واسعة النطاق.
وبصرف النظر عن كيفية تطور هذا الصراع، فقد سادت حالة من انعدام الثقة لا يمكن تداركها بين أوروبا وروسيا. أدى الهجوم الروسي إلى تغيير الحسابات الاستراتيجية بشكل جذري وإيجاد الظروف اللازمة لظهور نوع جديد من الحرب الباردة في وسط وشرق أوروبا. وتمثل روسيا - التي ينتمي إليها - تهديدا متوقعا طويل الأمد من شأنه أن يجبر الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه على استثمار مزيد في القدرة على الدفاع عن أنفسهم ونظامهم الديمقراطي الليبرالي ومبادئهم بالوسائل العسكرية.
بعبارة أخرى، يتعين على الاتحاد الأوروبي أن يحول نفسه إلى لاعب جيوسياسي يتمتع بسيادة وقدرة ردع عسكرية خاصة به للدفاع عن مصالحه. ينطبق هذا التحدي أولا وقبل كل شيء على ألمانيا، وليس لأنها الدولة العضو الأكثر اكتظاظا بالسكان ذات الاقتصاد الأكبر فحسب، بل لكونها تقع في قلب أوروبا. يتمتع تاريخها المروع في القرن الـ20 بالقدر نفسه من الأهمية. كانت ألمانيا هي التي وجهت الشعلة مرتين إلى القارة الأوروبية، وارتكبت جرائم لا مثيل لها في عهد هتلر حتى استسلامها غير المشروط وتقسيمها.
ثم تحول المعتدي الرئيس في النصف الأول من القرن الـ20 إلى دولة تضم التجار والمصنعين المسالمين. فبعد التخلي عن الحرب واتباع سياسة سلمية ترسخت بعمق في شعبها، أصبحت ألمانيا رائدة عالميا في مجال التصدير. ومع مرور الوقت، سمح لها مسار ما بعد الحرب ببناء الثقة مع أعدائها السابقين، وهو ما كان شرطا مسبقا لإعادة التوحيد السلمي في عام 1990.
ومع ذلك، بددت حرب روسيا الوهم بأن ألمانيا يمكن أن تظل دولة تجارية مسالمة إلى أجل غير مسمى. بعد 30 عاما من السلام والاستقرار النسبيين، أصبحت أوروبا الآن تحت التهديد العسكري المباشر مرة أخرى. وباعتبارها القوة الاقتصادية الأقوى في الاتحاد الأوروبي، سيتعين على ألمانيا تقديم عروض سلمية والبدء في إعادة التسلح، وتحويل قوتها الاقتصادية فعليا إلى عملة استراتيجية.
لقد تحركت البلاد بالفعل في هذا الاتجاه. في خطابه بعنوان "لحظة فاصلة" الذي ألقاه في أواخر شباط (فبراير)، أعلن أولاف شولتس المستشار الألماني تمويلا جديدا بقيمة مائة مليار يورو "99 مليار دولار" للجيش الألماني، ثم أعقب ذلك بحزمة بقيمة 200 مليار يورو لتخفيف الضربة الناجمة عن ارتفاع أسعار الطاقة. ستكون ألمانيا الجديدة بلا شك موضع اهتمام جيرانها، خاصة فرنسا.
وباعتبارها القوة النووية الوحيدة في الاتحاد الأوروبي والدولة العضو الوحيدة فيه التي تشغل مقعدا دائما في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة "وهما أمران لا تريدهما ألمانيا ولن تحققهما أبدا"، من الواضح أن فرنسا حذرة من الدور الجديد الناشئ الذي تلعبه ألمانيا. لا يزال من غير الواضح أي نوع من أوروبا تريده ألمانيا الجديدة، وقد أدى عدم اليقين هذا إلى إيجاد حالة من انعدام الأمن غير الضرورية. كما أن عدم كفاءة الحكومة الألمانية وغياب التنسيق في أعقاب خطاب شولتس لم يساعدا على حل المشكلة.
قد يؤدي تزايد الشكوك بين فرنسا وألمانيا إلى سوء فهم وأخطاء غير مبررة من كلا الجانبين، ما قد يؤدي إلى نشوب صراعات حقيقية من شأنها أن تعرض الأمن الأوروبي لخطر أكبر. ومع اندلاع حرب برية واسعة النطاق على حدودها، فإن الأمر يتطلب عكس ذلك تماما، تعاونا وتضافرا أوثق بين أكبر اللاعبين في الاتحاد الأوروبي، خاصة في مجال مشاريع الأسلحة المشتركة.
لقد أصبح الوضع أكثر تعقيدا بسبب التحول نحو الشرق في مركز ثقل الاتحاد الأوروبي، ووعد الاتحاد الأوروبي الجديد بتوسيع العضوية لتشمل أوكرانيا وجورجيا ومولدوفا. ستعمل عمليات الانضمام الجديدة هذه على تسريع تحول الاتحاد الأوروبي من سوق مشتركة ومشروع تحديث إلى لاعب جيوسياسي. علاوة على ذلك، هناك وعود طويلة الأمد لم تتحقق بعد بعضوية دول غرب البلقان - علاوة على المسألة التركية المعقدة للغاية. من الواضح الآن أن تقريب هذه الدول من التوافق يصب في المصلحة الاستراتيجية لأوروبا.
ستصبح هذه المناطق، إلى جانب شرق البحر الأبيض المتوسط ​​وشمال وغرب إفريقيا، من الاهتمامات الأساسية للأمن الأوروبي في العقود المقبلة. سيتعين على أوروبا التعامل معها، بينما تعمل أيضا من كثب مع شركائها عبر المحيط الأطلسي من خلال حلف شمال الأطلسي القوي. ما إذا كان بإمكان الاتحاد الأوروبي القيام بذلك سيعتمد أولا على فرنسا وألمانيا، اللتين يتعين عليهما العمل معا في إطار من الصداقة وحسن النوايا، على الرغم من الخلافات والتعقيدات الجديدة، والتعاون مع جميع الأوروبيين لدعم مشروعهما المشترك.

الأكثر قراءة