إيران .. صلاحية "جمهورية الملالي" على المحك

إيران .. صلاحية "جمهورية الملالي" على المحك
إيران .. صلاحية "جمهورية الملالي" على المحك

تدخل الانتفاضة في إيران شهرها الثالث، ولا تزال صورة المشهد في الداخل الإيراني منشطرة إلى نصفين، واحد يمثله المتظاهرين، في عموم محافظات البلد، وشعاره "إسقاط نظام المرشد". فيما يتولى الآخر مهمة إفشال "مخططات الأعداء"، بالدفاع عن الحكومة الإيرانية التي ترعاه. وبينهما يظهر المرشد ورجاله في مشهد الحيارى بحثا عن أنجع السبل لاحتواء الأزمة التي طال عليها الأمد، قياسا إلى تجارب احتجاجية سابقة في أعوام، 2019 والثورة الخضراء 2009 وانتفاضة الطلاب 1999.
تعاقب الانتفاضات، في مدى زمني قصير، يؤكد أن الشعب الإيراني سائر في طريقه نحو طلاق مجتمعي، يقيم شرخا عموديا داخل الجمهورية الإسلامية، بين فئة تعيش على أمجاد الثورة ومناهضة "الاستكبار العالمي" وأوهام "تصدير الثورة" بحثا عن الامتداد والتغول في المنطقة. وأخرى عازمة التصدي لمفاهيم "المقاومة" و"الممانعة"، وإخراج الدولة من جبة ولاية الفقيه، باستعادة دولة ما قبل الثورة المسروقة، في 1979.
كان الفعل الاحتجاجي في البداية قرين وقائع وأحداث معينة، قبل أن يتحول الأمر في الأعوام الأخيرة إلى سيرورة مترابطة، فلهيب الاحتجاج في الشارع الإيراني لم يخمد منذ أعوام، بإضرابات قطاعية "مهنية" أو مظاهرات مناطقية "جغرافية" أو انتفاضة خبزية "معيشية"... أو غير ذلك، فالمسألة تحولت إلى سلسلة لا يمكن معها تحديد بدايتها، فخلال كل احتجاج تحضر أسماء الضحايا وصور المعتقلين في الاحتجاجات السالفة، ما يزيد من حجم كرة الثلج - كما يقال - ويوسع الفجوة بين النظام والمواطنين.
تواصل الفعل الاحتجاجي، دون أن يسقط النظام ودون ملل أو يأس من جانب المحتجين، لدرجة أن المظاهرات تحولت إلى خبر شبه روتيني في سياق الأحداث اليومية في إيران، يؤكد أن تراكم وتواتر الأحداث أوجد لدى شريحة من الإيرانيين، تتزايد مع مرور الزمن، أزمة انتماء، وإحساسا بالاغتراب وهم داخل الوطن وبين أحضان الأهل. وفي ارتفاع أعداد المهاجرين من البلاد، وتزايد حالات الانتحار، بما في ذلك انتحار الأطفال الصغار، أكبر المؤشرات على فقدان رابط الانتماء وارتفاع أعداد المغتربين في البلد.
وما امتناع المنتخب الإيراني عن ترديد النشيد الوطني الإيراني أمام العالم في أولى مبارياتهم ببطولة كأس العالم، سوى دليل إضافي على هذا الأمر. فقد قرئ هذا الموقف الشجاع، الصغير من الناحية الزمنية والكبير من حيث الدلالة، بمنزلة هدف في شباك النظام الإيراني. فإذا كان الأصل في المنتخب القومي أن يحمل رسائل من بلده إلى العالم، فالظاهر أن المسألة انقلبت هذه المرة، حين بث الفريق الإيراني رسائل إلى النظام وإلى الجماهير المنتفضة داخل إيران.
توالي الإشارات يوحي بأن المشهد في الداخل الإيراني يزداد تعقيدا يوما بعد يوم، لدرجة أن النظام نفسه بات موقنا من أن الأساليب التقليدية أضحت غير مجدية، فسردية المؤامرة الخارجية أو عملية التدويل التي تطفو إلى السطح، منذ عدة أعوام، عقب كل انتفاضة، برد شبه جاهز من النظام، مفاده، "الأعداء يريدون ضرب الجمهورية الإسلامية"، تحولت إلى أسطوانة مشروخة، لم تعد مقنعة حتى لأنصار النظام، فدفاعهم عنه مصلحي قائم بالأساس على الانتفاع والاستفادة، وليس من باب الولاء المذهبي أو الإيمان الأيديولوجي.
وضع دفع النظام نحو البحث عن آليات أخرى لتدبير الأزمة، ربحا للوقت على أمل الاهتداء إلى مخرج مناسب، فحاول اللعب بورقة النخب الجامعية من خلال اجتماع الأكاديميين الإيرانيين الذي جمع النخب في جامعة طهران، دون أن تأتي المحاولة بأي عائد يذكر. وهذا أمر طبيعي ومتوقع، فالمثقفون والنخب التي يستجدي النظام صوتها اليوم، لمساعدته على تهدئة الشارع وإقناع الشعب، كانوا بدورهم ضحايا قمع وبطش أصحاب العمائم ردحا من الزمن، ما دفع بكثير منهم إلى الهجرة خارج البلاد، أو الانسحاب من المشهد العام حفاظا على حياته.
هكذا وجد النظام نفسه مضطرا إلى الاستعانة بخدمات شخصيات أبعدت لما يقارب العقد من الزمن، بشكل قسري، من الحضور في المشهد داخل إيران، والحديث هنا عن الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي الذي دخل على خط الأزمة، في محاولة منه لمد يد العون للنظام في عملية احتواء الشارع. واتضح أن كلام خاتمي كان تحت الطلب، بعدما قامت منابر إعلامية محسوبة على الحرس الثوري بنقل تصريحات الرجل التي دعا فيها إلى مواجهة مثيري الفوضى والشغب، مع التأكيد على أحقية الناس بالمطالبة بحياة وعيش كريمين، دون الحاجة إلى العنف والقوة.
استمرار المتظاهرين في الصمود كل هذه المدة، يزكي الانقسام المجتمعي الحاصل في الداخل الإيراني، كما أن عجز رجال المرشد عن تصريف هذه الأزمة على غرار ما سبق، يكشف عن أن الانتفاضة تحولت من مجرد رد فعل على حادثة معينة، مقتل الشابة مهسا أميني في 16 أيلول (سبتمبر)، إلى انتفاضة اجتماعية سياسية دبت في أوساط شرائح واسعة من المجتمع الإيراني. فحجم وعمق الحالة الاعتراضية، للإيرانيين على نظام المرشد، في اتساع وتزايد بشكل عمودي وأفقي معا.
يبدو أن نظام الملالي يتجاهل تأثير تعاقب الأجيال في مصير الدول والأنظمة، فشرعية الثورة التي يستند عليها النظام لإقناع الإيرانيين، كانت ذا نفع وأثر فيمن جايل الثورة وشارك فيها أو على الأقل ترعرع وسط أصدائها. عكس ما عليه واقع الحال مع جيل الشباب الذي يقود الاحتجاجات، ممن فتح أعينه على مشهد قوامه استغلال ثروات وخيرات بلاده لتخريب دول الجوار، بمبررات طائفية وشعارات واهية، لم تجعل من إيران دولة عظمى، ولم تنجح في تصدير الثورة... ولا غير ذلك من مزاعم رجال المرشد.
استشعر الإيرانيون أن الخمينية استنفدت نفسها، فنظام آيات الله أمعن في إحراق أوراقه واحدة تلو الأخرى، دون أن يمتلك الشجاعة لمراجعة نفسه، والقيام بتقييم شمولي أو حتى نقد ذاتي لحصاد أربعة عقود من تجربة "جمهورية العمائم". حقيقة مفادها أن أفول النظام بات مسألة وقت فقط، قد يساعد معطى تشابك المصالح القوية داخله في تأجيل الأمر بضعة أعوام، لكن المصير المحتوم مقبل لا محالة، فالنظام في طهران بلغ درجة بدأ يأكل فيها نفسه.

الأكثر قراءة