حقبة جديدة للنقود «2»

عملة البنوك المركزية الرقمية لها مساوئها. ومنها أنها تشكل مخاطر على النظام المصرفي. فالبنوك التجارية تقوم بدور حيوي في إنشاء وتوزيع الائتمان الذي يكفل استمرار عمل الاقتصادات بسلاسة. لكن ماذا سيحدث لو قامت الأسر بنقل أموالها من الحسابات المصرفية المعتادة إلى المحافظ الرقمية لدى البنوك المركزية، اعتقادا بأنها أكثر أمانا حتى إن كانت لا تدفع أي فائدة؟ فإذا حرمت البنوك التجارية من الودائع، قد يجد البنك المركزي نفسه في وضع لا رغبة له فيه يجعله مضطرا إلى الاضطلاع بأعمال توزيع الائتمان، فيقرر أي القطاعات والشركات التي تستحق القروض. إضافة إلى ذلك، من شأن تولي البنك المركزي تشغيل نظام لمدفوعات التجزئة أن يقضي على ابتكارات القطاع الخاص التي تهدف إلى جعل المدفوعات الرقمية أرخص وأسرع.
ومن الشواغل الأخرى التي تتسم بالقدر نفسه من الأهمية احتمال فقدان الخصوصية. فحتى مع وسائل الحماية الموضوعة لضمان السرية، سيرغب أي بنك مركزي في الاحتفاظ بسجل للمعاملات يمكن التحقق من صحة فحواه لضمان استخدام عملته الرقمية في الأغراض المشروعة فقط. ومن ثم تفرض عملة البنك المركزي الرقمية مخاطر القضاء في آخر المطاف على بقايا سمات حجب الهوية والخصوصية في المعاملات التجارية. غير أنه من شأن عملة البنك المركزي الرقمية المصممة بعناية، مستفيدة من الابتكارات التقنية سريعة التطور، التخفيف من حدة كثير من تلك المخاطر. ورغم ذلك، ومع كل ما تتمتع به من مزايا، فإنه ينبغي عدم التهاون في التعامل مع توقعات إحلال عملة البنك المركزي الرقمية محل النقد في نهاية المطاف.
ومن شأن التكنولوجيات الجديدة أن تزيد من صعوبة اضطلاع البنك المركزي بمهامه الرئيسة - أي الحفاظ على معدلات البطالة والتضخم منخفضة عن طريق التحكم في أسعار الفائدة. فعندما يقوم بنك مركزي مثل الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بتغيير سعر الفائدة الرئيس، فإنه يؤثر في أسعار الفائدة على ودائع وقروض البنوك التجارية على نحو مفهوم بالقدر المعقول. لكن إذا أدى انتشار منصات الإقراض الرقمي إلى تقليص دور البنوك التجارية في الوساطة بين المدخرين والمقترضين، لا ندري إن كان بوسع هذه الآلية لنقل آثار السياسة النقدية، الاستمرار في العمل أو كيفية حدوث ذلك.
لقد أصبحت الوظائف الأساسية للنقود التي تصدرها البنوك المركزية على أعتاب تغيير وشيك. فمنذ فترة قريبة لا تتجاوز قرنا من الزمن، دخلت العملات الخاصة في منافسة مع بعضها بعضا ومع العملات التي تصدرها الحكومات، المعروفة أيضا باسم نقود الثقة. وكان ظهور البنوك المركزية قد حول كفة الميزان بقوة لمصلحة عملة الإبراء القانوني أو نقود الثقة، التي تعمل كوحدة حساب وواسطة للتبادل ومستودع للقيمة. ومع ظهور الأشكال المختلفة من العملات الرقمية، والتكنولوجيا التي ترتكز عليها، أصبح في الإمكان الفصل بين وظائف النقود، ونشأت منافسة مباشرة مع عملات الإبراء القانوني في بعض الجوانب.
ومن المرجح احتفاظ عملات البنوك المركزية بأهميتها كمستودعات للقيمة، بالنسبة إلى الدول التي تصدرها في صيغة رقمية، وكذلك كوسائط للتبادل. ومع ذلك، من المرجح أن تزداد أهمية نظم الدفع ذات الوساطة الخاصة، ما يكثف المنافسة بين مختلف أشكال النقود الخاصة ونقود البنوك المركزية فيما يتعلق بدورها كوسائط للتبادل. إذا تركنا قوى السوق تعمل من تلقاء نفسها، فمن الممكن أن يهيمن على الساحة بعض جهات إصدار النقود وجهات توفير تكنولوجيات الدفع. وقد يؤثر بعض هذه التغييرات في طبيعة النقود بحد ذاتها - كيفية تكوينها، وأشكالها، ودورها في الاقتصاد... يتبع.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي