حقبة جديدة للنقود «3»

ستسهم أشكال النقود المبتكرة والقنوات الجديدة لنقل الأموال بين الاقتصادات وداخل كل منها في إعادة تشكيل تدفقات رؤوس الأموال الدولية، وأسعار الصرف، وهيكل النظام النقدي الدولي. وبعض هذه التغييرات ستكون لها منافع كبيرة، بينما سيفرض غيرها تحديات جديدة.
فالمعاملات المالية الدولية ستصبح أسرع وأرخص وستتسم بدرجة أعلى من الشفافية. وستكون هذه التغييرات نعمة للمستثمرين الذين يسعون إلى تنويع محافظ استثماراتهم، والشركات التي تسعى إلى تعبئة الأموال في أسواق رأس المال العالمية، والمهاجرين الاقتصاديين الذين يرسلون المال إلى مواطنهم الأصلية. وستسهم المدفوعات الأسرع والأرخص عبر الحدود في تعزيز التجارة أيضا، ما سيعود بالنفع، خصوصا على اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية التي تعتمد على إيرادات الصادرات في جانب كبير من إجمالي ناتجها المحلي.
غير أن ظهور كيانات جديدة لمعاملات تدفقات الأموال عبر الحدود لن ييسر التجارة الدولية فحسب، بل سييسر التدفقات غير المشروعة أيضا، ما يوجد تحديات جديدة أمام الأجهزة التنظيمية والحكومات. وستزداد الصعوبات التي تواجه الحكومات في السيطرة على تدفقات رؤوس أموال الاستثمارات المشروعة عبر الحدود. وهذا يفرض تحديات بعينها على اقتصادات الأسواق الصاعدة، التي عانت أزمات اقتصادية دورية نتيجة خروج تدفقات رؤوس الأموال الأجنبية فجأة وبكميات كبيرة. وستكون هذه الاقتصادات أكثر عرضة لمخاطر الإجراءات على مستوى السياسة النقدية التي تتخذها البنوك المركزية الكبيرة في العالم، التي يمكن أن تؤدي إلى تلك التدفقات الرأسمالية الخارجة.
قوة نقود البنوك المركزية الرقمية ومصداقيتها ليستا إلا بقدر قوة المؤسسة التي تصدرها ودرجة مصداقيتها.
ولن يكون ظهور عملات البنوك المركزية الرقمية ولا تخفيض الحواجز أمام التدفقات المالية الدولية، قادرين وحدهما على تحقيق تقدم كبير نحو إعادة ترتيب النظام النقدي الدولي أو توازن القوى بين العملات الرئيسة. فتكلفة المعاملات المباشرة بين أي زوجين من عملات الأسواق الصاعدة تتناقص، ما يقلل من الحاجة إلى "عملات وسيطة"، كالدولار واليورو. لكن عملات الاحتياطي الرئيسة، خاصة الدولار، ستحتفظ على الأرجح بهيمنتها كمستودعات للقيمة، لأن هذه الهيمنة لا ترتكز فقط على الحجم الاقتصادي للبلد القائم بإصدارها وعمق سوقه المالية، بل ترتكز كذلك على قوة الأساس المؤسسي الضروري للحفاظ على ثقة المستثمرين. ولا يمكن أن تكون التكنولوجيا بديلا للبنك المركزي المستقل وسيادة القانون.
وعلى غرار ذلك، لن تتمكن عملات البنوك المركزية الرقمية من إيجاد حل لمواطن الضعف الأساسية في مصداقية البنك المركزي أو غير ذلك من المشكلات، مثل سياسات المالية العامة غير المنضبطة التي تنتهجها الحكومة، وتؤثر في قيمة العملة الوطنية. وعندما تعاني الحكومة عجزا كبيرا في الموازنة، فإن فرضية تلقي البنك المركزي توجيهات بإصدار مزيد من النقود لتمويل هذا العجز تؤدي في الأغلب إلى ارتفاع التضخم وتخفيض القوة الشرائية لنقود البنك المركزي، سواء كانت مادية أو رقمية. وبعبارة أخرى، فإن قوة نقود البنوك المركزية الرقمية ومصداقيتها ليستا إلا بقدر قوة المؤسسة التي تصدرها ودرجة مصداقيتها.
تواجه البنوك المركزية والحكومات حول العالم في الأعوام المقبلة تحدي اتخاذ قرارات مهمة بشأن ما إذا كان عليها مقاومة التكنولوجيا المالية الجديدة، أو القبول السلبي بالابتكارات التي يقودها القطاع الخاص، أو الرضا بمكاسب الكفاءة المحتملة التي تطرحها التكنولوجيا الجديدة. فمع ظهور العملات المشفرة والتوقعات المتعلقة بعملات البنوك المركزية الرقمية، نشأت تساؤلات مهمة حول الدور الذي ينبغي أن تقوم به الحكومة في الأسواق المالية، أي ما إذا كانت تقحم نفسها في المجالات التي يفضل تركها للقطاع الخاص، وما إذا كان بوسعها التعويض عن إخفاقات الأسواق، ولا سيما العدد الكبير من الأسر التي لا تتعامل بالقدر الكافي مع النظام المصرفي أو لا تتعامل معه مطلقا في الاقتصادات النامية حتى في الاقتصادات المتقدمة مثل الولايات المتحدة... يتبع.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي