"اقتصاد الأعمال المستقلة".. ثورة نحو مستقبل وظيفي مرن

"اقتصاد الأعمال المستقلة".. ثورة نحو مستقبل وظيفي مرن

تفيد أبرز الاتجاهات، بشأن توقعات الخبراء للعام المقبل، بأن "اقتصاد الأعمال المستقلة" Gig Economy المرتبط بوظائف بعقود قصيرة المدى أو مؤقتة أو بشكل حر، مقبل على موجة نمو وازدهار غير مسبوقة، إذ يتوقع أن تتعدى حدود العام المقبل لتستمر على طيلة العشرية الحالية، مستفيدا من الثقافة الجديدة التي شكلتها جائحة كورونا حيال سوق الشغل على الصعيد العالمي من ناحية. ومن تزايد مظاهر الرقمنة في الاقتصاد، من ناحية أخرى، بتبني تقنيات جديدة توفر فرصا للنمو والابتكار.
لقد أسهم اتساع دائرة العمل عن بعد، خلال الأعوام الماضية، بفضل الاستخدام المتنامي للتكنولوجيا المتنقلة والمنصات الرقمية، في بروز ما اصطلح عليه "اقتصاد العمل الحر" أو اقتصاد "الوظائف المؤقتة"، وهو مفهوم قديم بأسماء مختلفة حسب السياق، فسمي بـ"العمل المؤقت" و"القوى العاملة الرشيقة"، و"العمل المستقل"... وغيرها من الأسامي، التي تدل على سوق عمل حرة، يحصل فيها الأفراد على عائد أو دخل من مهمة أو مهام أو وظائف قصيرة الأجل عند الطلب.
أحدث هذا الأمر منعطفا نوعيا في سوق العمل على الصعيد العالمي، وأوجد فضولا لدى كثيرين للاختبار، بلغ درجة الحديث في الأوساط الإعلامية الأمريكية عن "الاستقالة الكبرى" التي تحولت إلى أكبر لغز اقتصادي في العالم المعاصر، حيث ارتفعت طلبات التوظيف في الولايات المتحدة، مقابل تراجع حاد في أعداد التعيينات. فالرغبة تراود الجميع نحو تجريب هذا النمط الجديد "القديم" في الشغل، العمل كمتعاقد مستقل أو موظف حر.
تتيح الصيغة الجديدة للعمل منافع متبادلة لكلا الطرفين، فبوساطته تستطيع المقاولات الوصول إلى كم هائل من العمال الماهرين، ذوي المواهب المتخصصة والخبرات الدقيقة، ممن راكموا تجارب سابقة، بأقل قدر ممكن من التكاليف، للقيام أعمال معينة وبمنتهى الجودة والاحترافية، نظير أجر متفق عليه وفقط. هذه الصيغة تجعل الشركة في حل من أمرها تجاه الموظفين المستقلين، بشأن الرعاية الصحية والإجازات المرضية والإجازة السنوية وغيرها من التكاليف التي تدفع للموظفين وفق الصيغة التقليدية للعمل. كما تسقط أي قيود جغرافية أمام استقطاب الكفاءات التي تسهم في نجاح الشركات من جميع أصقاع العالم، دون تحمل أي تكاليف لاستقدام قصد الالتحاق بمكان العمل.
ويرى الأجراء فيها أكثر من منفعة، فهي في مستوى أول فرصة للتحرر من قيود الدوام اليومي، بساعات عمل إجبارية محددة التوقيت. كما تتيح إمكانية توسيع العملاء بالاشتغال بالتوازي مع عدد من المشاريع، وفق جدولة زمنية سمتها المرونة، ما يعني كسب إضافيا وربحا أكبر مقارنة بـعائد الوظيفة بشكلها التقليدي. وتوفر حيزا من الحرية، يسمح بالاتفاق بشكل اختياري حول طبيعة الأعمال التي سيقوم بها الموظف الحر، عكس الشغل الكلاسيكي حيث الموظف ملزم بأداء مهام بناء على توجيهات رئيسه.
وفي مستوى ثان، تدفع إلى التفكير خارج الصندوق عند التعامل مع سوق الشغل، فالمقبلون على العمل في مجال اقتصاد الأعمال المستقلة يتعاطون معه باعتباره مراحل انتقالية، ومحطات لتنمية الخبرات ومراكمة التجارب، وليس اختيارا مهنيا نهائيا ودائما. كما أنهم يميلون أكثر إلى تسجيل تعددية في الأعمال والخبرات لكونه يسمح بالإبداع والابتكار والمهارة، بعيدا عن الروتين في فضاء أو مؤسسة عمل لعدة أعوام. فضلا عن كونه اختيارا يبعث على الطمأنينة والراحة، في ظل تزايد وتيرة تسريح العمال، لأسباب عديدة، على الصعيد العالمي.
يتوقع مراقبون أن تبلغ قيمة اقتصاد الأعمال الحرة 2،7 تريليون دولار، بحلول 2025. وذهب آخرون في توقعاتهم إلى أن اقتصاد الوظائف الحرة سيشهد في الولايات المتحدة وحدها كتلة عاملة تقدر بأكثر من 85،6 مليون شخص، بحلول 2027، ما يفيد بأن الأجراء المستقلين سيشكلون، في غضون خمسة أعوام، أكثر من نصف، وتحديدا 50،9 في المائة، اليد العاملة النشيطة داخل البلد.
تتجه هذه الأرقام وغيرها نحو التأكيد يقينا بأن اقتصاد الأعمال الحرة سيدفع مستقبل التوظيف، نحو إعادة رسم الخطوط، وتحديد المسارات، فلا بديل للشركات عن تشغيل أجراء مستقلين لتحصيل حد أدنى من المرونة والابتكار، يضمن القدرة على التنافسية والبقاء في الريادة. ويبقى هذا العمل، من وجهة نظر الخبير الأمريكي جون يونگر Jon Younger، خيارا مهنيا حتميا، استطاع اقتحام ميادين ومجالات مختلفة، ما جعله يبشر بكل يقين وطمأنينة عن "ثورة العمل الحر" في المستقبل.
لا جديد تحت الشمس، فهذا الخيار قائم باستمرار ما تغير هو توسيع نطاقه، من حيث المجال الجغرافي والموضوعات لا غير، هذا ما يراه المتحفظون على الفكرة التي تبقى طريقا جديدا لتخفيف العبء المالي على أصحاب الشركات بالتملص من حقوق الأجراء. فالموظف المستقل، ملزم بدفع نحو 1 /3 من أرباحه لمصلحة الضرائب، دون الحديث عن الإجهاد والتوتر والعزلة التي يطوق بهما نفسه، متى كان العمل في عدة مشاريع، قصد الوفاء بالتزاماته المهنية للعملاء في الآجال المحددة.
مهما يكن من أمر بشأن الأرقام والتوقعات، فالمؤكد أن العالم يعيش تغيرا في مجال الوظيفة، فانتشار الإنترنت الذي تعزز بخدمات الذكاء الاصطناعي أتاح بدائل غير متاح في عصر ما قبل الثورة التكنولوجية. ويدفع حاليا نحو تغيير شامل في ثقافات التوظيف، بالتأسيس لمستقبل وظيفي مرن. على غرار ما حدث بعد الثورة الزراعية، حيث تراجعت اليد العاملة في المجال الزراعي، ثم جاءت الثورة الصناعية بنظام المصنع الذي بدل بشكل كلي طبيعة العمل. فزراعيو الأمس أشبه بأهل العمل الحر اليوم، ففي العمل كثير من الاستقلالية من حيث العمل من المنزل والتوقيت.. عكس ما عليه الحال في المصنع حيث الصرامة والنظام والرقابة والتبعية.
وهنا تحديدا وجبت الإشارة إلى أن هذا التحول في العمل الذي غير ملامح الاقتصاد العالمي، من الزراعة إلى الصناعة، لم يكن بالسهولة المتخيل اليوم، لذا استعان أرباب المصانع في البداية بالنساء والأطفال، الأكثر استجابة للأوامر والتعليمات، لتعويض تخلف الرجال الذين رفضوا الخضوع لقواعد وقيود تنظيم العمل. في عالم اليوم، يتخذ السيناريو منحى عكسيا، فالأفراد يهربون من التوظيف النظامي نحو العمل الحر... فهل يكون ذلك إيذانا بثورة العمل الحر؟

الأكثر قراءة