إيران .. «التوجه نحو الشرق» في مهب الريح
انهارت أحلام النظام الإيراني عقب الزيارة الأخيرة التي أجراها الرئيس الصيني شي جي بينج إلى السعودية، بانهيار استراتيجية التوجه نحو الشرق، الناشئة عن دبلوماسية حكومة أحمدي نجاد الاقتصادية عام 2005، المبنية في مجملها على الابتعاد عن الأوروبيين والغربيين، وربط الاقتصاد الإيراني بالشرق، تحديدا روسيا والاقتصادات حديثة الظهور "الصين والهند"، للتخفيف من أضرار العقوبات الاقتصادية، وبناء عليه ارتكزت الاستراتيجية على هذه الفكرة.
اعتمد رجالات المرشد الأعلى علي خامنئي على الصين باعتبارها الحليف الاستراتيجي الأجدر بالثقة، لكن بنود البيانات الختامية لقمم الرياض اشتملت على نقاط، فسرتها أغلبية القوى السياسية في إيران، بأنها عدول عن التحالف الصيني - الإيراني، ووقوف صريح إلى جانب المنافسين الإقليميين، إضافة إلى أن المواقف الصينية أثناء الزيارة شكلت صدمة للموقف الإيراني على المستويين الرسمي والشعبي.
وجه الإيرانيون أخيرا انتقادات لاذعة للصين، بعد زيارة الرياض وحضور ثلاث قمم صينية سعودية خليجية عربية، لتقوم طهران باستدعاء تشانج هوا السفير الصيني لديها، للتعبير عن "الاستياء الشديد" بسبب ما ورد من بنود في بيان القمة، إضافة إلى المخاوف الإيرانية المتعلقة بالتوسع الصيني نحو المنطقة الخليجية، الذي سيكون على حساب بلادهم، إلى جانب المخاوف من إيجاد موطئ قدم للجيش الصيني في المنطقة، بذريعة ضمان مصالح بكين الاقتصادية، على غرار تلك الأمريكية، التي تقف في وجه مشروع التمدد الإيراني نحو الخليج، وألا تكون ذروة المنافسة الأمريكية - الصينية في منطقة الشرق الأوسط على حساب إيران.
الصين آخر قلاع الشرق التي تخذل النظام الإيراني، والعلاقات السياسية بين الدول تحكمها المصالح لا العواطف، إذ يتجاوز التبادل التجاري بين السعودية والصين خمسة أضعاف التبادل التجاري الإيراني - الصيني، وإن التبادل التجاري بين بكين وأي واحدة من العواصم الخليجية، أكبر من تبادلها مع طهران، وإن مجمل المصالح الصينية مع العرب بات أكثر أهمية من مصالحها مع إيران، حيث يعكس دعم الصين للموقف العربي في وجه إيران واقع التبادل التجاري المتنامي.
الصدمة في طهران تجاوزت كل التوقعات، فالمواقف التي عبرت عنها الصين خلال الزيارة إزاء البرنامج النووي الإيراني، وأنشطة إيران الإقليمية، وقضية الجزر الإماراتية الثلاث المحتلة، والتدخل في شؤون دول الجوار، هي جوهر الخلاف الإيراني - العربي، والموقف الصيني المؤيد للرياض، يضع النظام الإيراني في موقف محرج داخليا وخارجيا.
على مستوى النخب الإصلاحية الإيرانية، جرى التعبير عن هذه الصدمة، من خلال توجيه نقد لاذع من الصحافة المعتدلة إلى فكرة التحالف الاستراتيجي مع الصين، واستراتيجية "التوجه نحو الشرق"، ما دفع موقع المجلس الأعلى للأمن القومي إلى تأكيد أن العلاقات مع الصين عميقة وكبيرة إلى حدود غير مسبوقة، لكنها لم ترتق بعد إلى مستوى التحالف الاستراتيجي.
وعدت تغطية النخب الرافضة لسياسات حكومة رئيسي والنهج القائم، الصين فضلت الجانب العربي، لما له من قوة وثقل عالمي على كل المستويات، تحديدا الطاقة، التي استثمرتها لتنمية علاقاتها إيجابا، دون اللجوء إلى الاستثمار في تربية العداوات وزيادة رصيد الكراهية لها، وأن الصين تحاول استدراك المواقف الماضية باسترضاء العرب، لما تمتلكه من علاقات تجارية واسعة مع هذه الدول، خصوصا الدول الخليجية، التي يبلغ حجم التبادل التجاري بينها وبين الصين أكثر من عشرة أضعاف حجم التبادل بين طهران وبكين.
مسؤول إيراني سابق وصف العلاقة بين بلاده والصين بأنها "مبنية على العمى الأيديولوجي، فعلى الرغم من جميع المؤشرات السلبية من الموقف الصيني تجاه قضايا إيران وأزماتها، إلا أن رغبتنا في التمسك بالصين كانت تزداد يوما بعد يوم، ولم نكن نرى ما يحدث حولنا، والزيارة اليوم ليست إلا خيبة جديدة في علاقتنا مع الصين، وإن الدور السابق للصين عادة ما يميل إلى تهميش طهران، وإبعادها عن المشاريع الإقليمية، والمواقف الأخيرة ليست إلا تتويجا لمسار أطول من تجاهل إيران".
النظام الإيراني الرسمي تتعاظم مشكلاته، وكلما تدفعه الضرورة إلى التزام الواقعية السياسية، والاعتراف بأثر العلاقات الاقتصادية في تغيير الموقف الصيني، يتجه النظام نحو سياسة الإنكار ووجوب التمسك بالمبادئ المعادية للغرب، وأن الزيارة جاءت في سياق الموقف الصيني الرافض للهيمنة الأمريكية.
تجاهلت وكالة الأنباء الرسمية الإيرانية الزيارة إلى حد كبير، واصفة الهدف منها بسحب البساط من النفوذ الأمريكي في منطقة الخليج، وتجييره لمصلحة الصين، ولم تنفك القنوات والصحف الموالية للنظام الإيراني، عن الترويج لهذه الأفكار في تغطية زيارة الرئيس الصيني للرياض، التي صنفتها ضمن إطار ذروة العداوة لواشنطن، وأن أهداف الزيارة الأخرى لا تتجاوز حدود المجاملات بين الدول، وأن ما يجري بين الرياض وبكين مجرد انفتاح اقتصادي.
الصحافة المحسوبة على الحرس الثوري المعروفة بتشددها، عدت الموافقة الصينية على طرح ملف الجزر الإماراتية الثلاث المحتلة من إيران في المنظمات الدولية، تفتح الباب ضمنا على اعتراف إيراني مماثل بطرح ملف تايوان لدى المنظمات ذاتها، واتجهت صحيفة "كيهن"، إلى ما هو أبعد من ذلك بالتأكيد على أن دولا كاملة في المنطقة تتبع لإيران.
وبحسب الأخبار الواردة من إيران فإن الصحافة هناك، نشرت أخبارا عن موافقة الحكومة الإيرانية على مقترح افتتاح مكتب للجالية المسلمة الصينية في العاصمة طهران، في خطوة منها لرفض التحول في الموقف الصيني الخارجي والميل نحو الخصم الإقليمي السعودية، وأنها ستدعم أقلية الإيجور المسلمة، لكن سرعان ما نشرت الصحف ذاتها مواقف مختلفة تماما في الأيام التالية، التي عدت الزيارة استراتيجية لإنهاء النفوذ الغربي - الأمريكي في المنطقة.
وفي سبيل إظهار أن الاتفاق الاستراتيجي بين إيران والصين لا يزال حيا، ستعمل حكومة رئيسي، بتوجيه من مكتب المرشد خامنئي، على تكثيف الزيارات والاجتماعات المتبادلة مع الصين، لإظهار متانة واستدامة العلاقات مع بكين، كما ستقدم طهران مزيدا من التنازلات، التي ستكون على شكل اتفاقات اقتصادية، للتخفيف من حدة الموقف الصيني، بعد زيارة الرياض وعقد القمم الثلاث فيها.