التجسس الاقتصادي .. حرب معلومات للسيطرة على العالم

التجسس الاقتصادي .. حرب معلومات للسيطرة على العالم

تحول مبنى القضاء العالي في قلب القاهرة إلى ثكنة عسكرية، خلال دقائق قليلة، العساكر في شارع شامبليون مدججون بالسلاح منذ الفجر، غير عابئين بشمس أيار (مايو) الحارة، فقط يكفيهم ساندوتشات "فلافل" من المحال المجاورة، أما العشاق فانتظروا قدوم الصباح للفوز بحفلات صباحية يشاهدون فيها فيلم "بخيت وعديلة 2 " للنجم عادل إمام في سينما ريفولي التي تقبع في الجانب الآخر، وحدهم أصحاب محال وسط البلد أدركوا بحكم الخبرة أن هناك قضية مهمة ويلزمها تأمين، لكن ما لم يخطر في أذهانهم أن هذا الذي اقتيد من إحدى سيارات الأمن المصري، هو الجاسوس الإسرائيلي الشهير عزام عزام الذي قضت مصر بحبسه لاحقا.
تلك الوقائع التي عاشتها مصر في 18 مايو 1997، لم تكن مجرد قضية جاسوسية تتكرر في كل دول العالم بأشكال وأنواع مختلفة فقط، بل كانت قيمتها الحقيقية أن عزام عزام لم يكن أكثر من جاسوس اقتصادي دخل القاهرة تحت غطاء تاجر نسيج، وتركز نشاطه في الحصول على معلومات عن شركات ومصانع منطقة العاشر من رمضان على أطراف العاصمة المصرية، إضافة إلى الإحاطة بكل ما يجرى في ملفي التنمية العمرانية والمنتجات التي تنوي مصر الشروع في تصنيعها محليا.
قضية عزام عزام وغيرها، دفعت الاستخبارات الأمريكية إلى معرفة ما يحدث في العالم الجديد، وبحسب تقريرها السنوي في 2003، فقد وجدت أن المخابرات الروسية مثلا أكثر الجهات الأجنبية اهتماما بأنشطة المؤسسات الاقتصادية السويسرية، ومراكز البحث العالمي المهمة، وتنفق بلايين الدولارات لمعرفة التطورات أولا بأول، ولديها جواسيس مؤهلون جيدا في ذلك الإطار، وبحسب جاك بو، مؤلف موسوعة "أجهزة المخابرات والاستخبارات"، فإن هذا التقرير يمكن اعتباره أول تأسيس حقيقي لما بات يعرف بـ"الجاسوسية الاقتصادية"، والمقصود بها، هؤلاء العملاء الذين تتلخص مهمتهم في جمع معلومات اقتصادية دقيقة حول الخطط التنموية للبلد الذي يعملون فيه، حتى يرسلوا تلك المعلومات إلى دولهم التي يعملون لمصلحتها لتوظيفها لاحقا.
منذ 2003 لم تدخر أجهزة الاستخبارات العالمية من الـ"كي جي بي" إلى " إم أي إف" جهدا في محاصرة هذا النوع الجديد من التجسس، والفضفاض في آن واحد بحسب جاك بو، فإن كل عامل يمكن أن يصبح جاسوسا، وكل موظف صار قنبلة موقوتة في بلده، وتأكيدا لحجم الخطورة صدر في 2004 تقرير الاستخبارات الأمريكية الذي كشف أن 39 في المائة من الشركات الخاسرة في الشرق الأوسط في العام نفسه، كان نتيجة عمليات التجسس الاقتصادي التي أفقدتها صفقات تقدر بمليارات الدولارات.
"سيأتي يوم لن يتجسسوا علي عن طريق هاتفي، في الواقع هاتفي هو الذي سيتجسس علي"، تلك الجملة التي أطلقها الأديب الأمريكي فيليب ديك، ربما كانت جرس إنذار توضح فشل الأجهزة الرسمية في محاصرة التجسس الاقتصادي، وذلك بعد ثورة الاتصالات خلال العقد الماضي، فباتت السيطرة عليها من ناحية أمرا صعبا، من ناحية أخرى فإن أعمال التجسس لم تقتصر على الدول فقط، لأن الشركات متعددة الجنسية دخلت إلى تلك اللعبة، وبات لديها عملاؤها الذين يطلقونهم في جميع الدول بما فيها الدولة الموجودون فيها، وذلك للحفاظ على إمبراطوريتهم المالية الضخمة.
وتتعدد مصادر التجسس الاقتصادي، فيوضح روبرت جيتس، المدير السابق لوكالة الاستخبارات الأمريكية، أنها تشمل المعلومات الرسمية المنشورة في الصحف والقنوات الإعلامية والمواقع الإخبارية، مرورا بتحليلات الاقتصاديين ومواقع التواصل الاجتماعي، وأبرز التريندات التي تؤثر في الجماهير، ويتم إخضاع كل ذلك إلى وحدات البحث الموجودة في أي وكالة استخباراتية، وفيها باحثون متخصصون في تحليل جميع الآراء واستخلاص نتائج ومؤشرات منها وبناء على ذلك يتم وضع الخطط المستقبلية.
وبعيدا عن تلك المصادر، فإن هناك معلومات تستلزم اختراقا أكثر، وهو ما يدفع الدول إلى اتباع حيل كثيرة منها تجنيد عملاء مؤهلين وقادرين على التخفي والحصول على المعلومات المطلوبة، أو كما فعلت فرنسا منذ عقد، بوضع ميكروفانات في مقاعد المسافرين من رجال الأعمال على الطائرات الفرنسية، لمعرفة كواليس التجارة العالمية وأخبار الصفقات الجديدة التي يشرعون فيها، ولم يكن ذلك غريبا بعد تصريح إدوارد سنودن، الموظف السابق في وكالة الأمن القومي الأمريكية، وتأكيده أن 40 في المائة من عمليات التجسس حول العالم تكون لأغراض اقتصادية.
هذا ما يفسر ما يحدث بين الصين وأمريكا خلال الخمسة أعوام الماضية، فمع اشتداد الصراع بين القوتين وتنافسهما على من يحتل المرتبة الأولى اقتصاديا، عادت قضايا التجسس الاقتصادي لتظهر بقوة، يدلل على ذلك الحكم على عميل الاستخبارات الصينية شو يانجون في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي بالسجن 20 عاما، في الولايات المتحدة، لمحاولته سرقة تكنولوجيا من شركات طيران، وهي قضية كان فيها 11 مواطنا صينيا مهمتهم الحصول على معلومات تجارية خطيرة بحسب ما وصفته وزارة العدل الأمريكية.
وإذا كانت جميع الحقائق تؤكد، أن مشاهد الجاسوسية التي طالعناها في الأفلام السينمائية، ستصير قريبا مجرد ذكرى، فلا حاجة الآن إلى عميل يتعلم الكتابة بالشفرة والتفريق بين أنواع الأسلحة المختلفة وإجادة الفنون القتالية، وبالتأكيد فأجهزة الاستخبارات العالمية لم تعد في حاجة إلى هولندية مثل ماتا هاري التي زرعها الألمان وسط الطبقة العليا الفرنسية في الحرب العالمية، وأدت عملها بنجاح حتى لقبت بأشهر جاسوسة في التاريخ، ولن تتكرر أسطورة جورج بليك الجنرال الروسي الذي عمل جاسوسا في بريطانيا لأعوام طويلة، والسؤال، إذا كان كل هذا صار ماضيا، وقائمة الضحايا شملت أمريكا، ثم لحقتها كندا التي وجهت لأول مرة في تاريخها تهمة التجسس الاقتصادي للصيني بوشينج وانج، زاعمة مشاركته أسرار تجارية خطيرة مع الصين، فأي دولة مقبلة ستكون الضحية الجديدة لعالم المعلومات القاتلة؟!

الأكثر قراءة