2022 .. تغيرات الطبيعة لم توقف تقلبات السياسة
يرحل 2022، مع انقضاء أيام الأسبوع الجاري، لكنه يصر على توريث أخيه 2023، تركة ثقيلة من آثار وتداعيات ناجمة عما شهده من وقائع استثنائية وأحداث نوعية، صنعت عالما آخر. لا مراء في القول إن العام الراحل التحق بقائمة أعوام مثل، 1918 و1939 و1945 و1989... التي دشنت بمجرياتها مسارات أخرى في التاريخ البشري. هكذا إذن تسقط أي فرصة لاستكشاف مدى تحقق أماني وآمال الإنسانية، في أولى أعوام ما بعد الجائحة الطبيعية كورونا، في ظل الهجوم الفتاك للجائحة البشرية "الحرب".
ودعت الإنسانية عام اندلاع الحرب، ففتيل العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا الذي انطلق، باكورة هذا العام، تحت مسمى عملية عسكرية محدودة، لم ينطفئ بعد، ولا ملامح في الأفق عن قرب ذلك. إذ صدى طبول الحرب التي كانت تقرع باستمرار، خلال الأعوام الماضية، توقف أمام هدير السلاح، واضعا نقطة النهاية لمعادلة تعايشت معها الإنسانية مكرهة، من منطلق أخف الضررين، إنها معادلة اللاحرب واللاسلم، التي ضبطت إيقاع سير العالم أعواما عدة.
زجت روسيا في العالم في أتون المجهول، بعد قرار الحرب المشهود، في 24 شباط (فبراير) بدأت عملية عسكرية في أوكرانيا ردا على الأطماع التوسعية لحلف الناتو، الذي لم يتردد في إعلان وقوفه إلى جانب كييف، بتوفير جميع أنواع الدعم والتأييد "الدبلوماسي، المادي، اللوجستيكي...". كانت أولى مشاهد الفوضى التي أعقبت العملية، تدفق ملايين اللاجئين على أوروبا، ما أعاد إلى الذاكرة الأوروبية مجريات الحرب العالمية الثانية.
تدريجيا، بدأت آثار الحرب تتراخى، فانقسم العالم دبلوماسيا في بادئ الأمر صنفين، بين موسكو وكييف، قبل أن تتضح صورة صنف ثالث، بقيادة دول عربية وازنة، اختارت الحياد مفضلة إعلاء لغة السلم بالانتصار للحوار والوساطة بين الفصيلين. وجدت أوروبا نفسها بعد حين غارقة في أزمة طاقة لا مثيل لها، فبات الصراع على أشده بين الجيران "ألمانيا، فرنسا، إيطاليا، بريطانيا..." لاغتنام النصيب الأكبر من مواد الطاقة بديلا عن المنتجات الروسية. تنافس أرهق بتكلفه باقي دول العالم، ولا سيما الفقيرة، التي تلقت ضريبة الحرب في شكل ارتفاع صاروخي لأسعار المواد الأولية والطاقة، حتى بات شبح المجاعة يتربص بكثير من دول إفريقيا جراء اختلال سلاسل الامتدادات والتوريد.
يحترق شرق أوروبا جراء الحرب، ويهتز غربها بشكل مواز نتيجة تداعياتها، فالمملكة المتحدة التي فقدت الملكة إليزابيت الثانية، بعد أكثر من 70 عاما في الحكم، وقفت على أعتاب اضطراب سياسي كبير، لم يخفف من وطأته سوى حدث رحيل الملكة بطقوسه المهيبة التي أنعش الوجداني البريطاني. فبعد استقالة زعيم المحافظين بوريس جونسون، بسبب سلسلة فضائح، عجزت ليزا تراس عن الصمود في وجه العواصف الداخلية والخارجية التي هبت على البلاد، وكان أفدحها خطة ترحيل المهاجرين واللاجئين إلى رواندا. فانسحبت ليسطع نجم المصرفي ريشي سوناك، ذي الأصول الآسيوية، الذي تولي رئاسة الوزراء، ليصبح بذلك خامس شخصية منذ واقعة الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، والثالثة من بداية الحرب في أوكرانيا.
صوت المعركة لم يمنع الطبيعة من السعي إلى إسماع كلمتها للأوروبيين خاصة، والدول الصناعية عموما، باعتبارها الأكثر مسؤولية عن مشكلة التغير المناخي، في حين تبقى دول العالم الثالث مجرد ضحايا يدفعون ثمن جناية الغرب. كانت ربوع أوروبا على موعد مع أحر صيف على الإطلاق، بتسجيل مستويات قياسية في درجات الحرارة، تسببت في حرائق هائلة، تجاوزت 660 ألف هكتار من الغابات، وخلفت اضطرابات في مناحي الحياة ما كشف عن هشاشة فظيعة في البنيات التحتية، إذ تبين أنها غير مؤهلة لتواكب المخاطر المناخية. تعدت الرسالة حدود أوروبا نحو الصين وربوع القارة السمراء لتصل إلى أمريكا الجنوبية ونطاق واسع في آسيا، ففي باكستان مثلا شرد ما يزيد على ثمانية ملايين شخص، بسبب الفيضانات التي أغرقت ثلث البلد وأزهقت أرواح الآلاف.
تغيرات الطبيعة لم توقف زحف التطرف السياسي الذي تقدم في أكثر من موقع في أوروبا، بدءا بإيطاليا التي وصلت فيها جورجيا ميلوني عن حزب "إخوة إيطاليا" إلى رئاسة الوزراء، وفي السويد، أعرق الدول الأوروبية قبولا للمهاجرين، اكتسح "ديمقراطيو السويد" الحزب اليميني القومي المناهض للأجانب، الانتخابات حتى صار القوة السياسية الثانية في البلاد. وقبل ذلك في فرنسا، حقق التجمع الوطني بقيادة مارين لوين اختراقا تاريخيا كبيرا في الجمعية الوطنية ليصبح أكبر حزب معارض. وحافظ فيكتور أوربان زعيم الحزب القومي المجري على صدارة المشهد السياسي في البلد، بتحقيق فوز جديد في استحقاق نيسان (أبريل) الماضي.
تراجع المد اليميني ظل حكرا على أمريكا اللاتينية التي شهدت سقوط آخر رموزه في البرازيل، بعد احتدام المنافسة، في الدور الثاني من الانتخابات، مع زعيم اليسار العمالي الرئيس الأسبق لولا دا سيلفا الذي فاز، عكس كل التوقعات، بفارق ضئيل. لتلتحق البرازيل بقائمة اليسار بعد كولومبيا التي كانت دوما قلعة يمينية، وبوليفيا والأرجنتين والمكسيك والشيلي والهندوراس...
غير بعيد، لم تشهد الولايات المتحدة في الانتخابات، كما توقعت استطلاعات الرأي، تغييرا في موازين القوى بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، فنتائج الانتخابات النصفية لم تمنح الاكتساح للون الأحمر، بل كانت بعائد ضئيل حيث حافظ كل حزب على حجم الطبيعي في المشهد السياسي. صحيح أن الانقلاب لم يكن سياسيا، لكنها كانت قضائية بقرار المحكمة العليا، في حزيران (يونيو)، منح كل ولاية حرية حظر الإجهاض على أراضيها، ملغيا بذلك حكما قضائيا عمره نصف قرن.
سجل نظام الملالي انحيازه مبكرا لمصلحة روسيا، سعيا وراء مكاسب يجنيها من الحرب، فخلال الحروب ينتعش ويتربح، لكن اهتمامه بالآخرين أشغله عن لهيب الانتفاضة التي عمت البلاد طولا وعرضا، ولا تزال حتى حاليا، بعد وفاة الشابة الكردية مهسا أميني في المستشفى جراء الاعتداء عليها من قبل شرطة الأخلاق. دون أن يجد رجال المرشد حلا لوقف احتجاجات غير مسبوقة، أودت بحياة أزيد من 300 شخص، ونجح في تفكيك جهاز شرطة الآداب. ونجحت في توسيع الشرخ داخل المجتمع الإيراني الذي بات منقسما عن نفسه، بين مؤيدي الحكومة وأنصار التغيير.
تقلب الدول من حال إلى آخر ليس غريبا، فالدولة من دال يدول بمعنى تبدل وتحول وتغيرت أحواله. لكن الجديد والمفاجئ، وإلى حد ما غير متوقع، ما شهدته أسواق العملات الرقمية من اهتزاز، دفع بكثيرين إلى الحديث عن "فقاعة العملات الرقمية"، فالتراجع الحاد في القيمة السوقية لهذه العملات كان حدثا نوعيا هذا العام، حيث فقدت 614 في المائة من قيمتها خلال عام، بانخفاض إلى حدود 842.5 مليار دولار نهاية العام، بعد أن كانت في مطلعه عند سقف 2182.5 مليار دولار.
أخيرا، يظل الحدث الأبرز، غير القابل للمحو ولا النسيان في الذاكرة، نجاح العرب في تقديم نسخة فريدة من بطولة كأس العالم في الخليج، اعتدادا وتنظيما ومشاركة، فالمنتخبات العربية المشاركة سجلت مفاجآت دخلت بها التاريخ "السعودية/ الأرجنتين، تونس/ فرنسا، المغرب/ بلجيكا، إسبانيا، البرتغال...)، فضلا عن الجماهير الخليجية والعربية التي صححت بحضورها المتميز تلك الصورة السلبية عن العرب في إعلام وأذهان الغربيين.
وقبل ذلك وبعد، يبقى 2022 العام الذي تخطت فيه الإنسانية عتبة المليار الثامن فوق الأرض، واضعا أسئلة وقضايا الديموغرافيا موضع شك وريبة، فليست توقعات وتوصيات الدول الغربية دائما سليمة ومنطقية!