الجاسوسية .. من عوالم السرية نحو المصادر المفتوحة
ترافق الحروب التي تدور رحاها على أرض المعركة، حروب موازية في الدبلوماسية والإعلام والاستخبارات... لا تقل ضراوة عن المواجهة في الميدان، وفي الأغلب ما تتكئ وقائع ومجريات الأولى على ما تجود به الثانية من أنباء ومعطيات، فكم مرة تغير مصير شعب لأن خبرا وصل متأخرا أو لأن معلومة أسيء تحليلها، وكم مرة أصيبت أمة بأكملها بانتكاسة، لأن فيها خائنا واحدا على الأقل.
تاريخيا، لعبت الحرب الاستخباراتية دورا مهما في حسم نتائج المعارك، فالعمليات السرية التي يقوم بها الجواسيس شكلت، على مدار التاريخ، أساس التفوق الحربي، لكونها ركيزة الجيش في بناء الخطط، وتنفيذ التحركات على الأرض. ألم يقل الإنجليزي آرثر ويلزلي، المشهور بلقب الجنرال ولنجتون، الذي أنهى الحروب النابليونية، بعدما هزم نابليون بونابرت في معركة واترلو، في 1815، "كل أعمال الحرب هي أن تعرف ماذا يجري في الجهة المقابلة من التل".
حرص الأوكرانيون، منذ الأيام الأولى في حربهم ضد الروس، حتى قبل أسابيع من اشتعال فتيل الحرب، على التمسك بتوجيه القائد ولنجتون قدر الإمكان، في استعدادهم وتدبيرهم ليوميات الحرب، ضد ثاني أقوى الجيوش على الصعيد العالمي، والوريث الشرعي لإرث وتركة الاتحاد السوفياتي. ولعبت الاستخبارات الأوكرانية بدعم من نظيرتها الغربية، خصوصا الأمريكية والبريطانية والفرنسية، دورا محوريا في هذه المواجهة، باعتبارها الأداة الأمثل للالتزام بالنصيحة الذهبية للجنرال ولنجتون.
توشك الحرب على استكمال عامها الأول، أواخر شباط (فبراير) المقبل، دون أن يتمكن أي طرف من حسم المواجهة لصالحه، رغم البون الشاسع بينهما في قائمة الترتيب من ناحية القدرات العسكرية، فصاحب المركز الثاني يواجه أوكرانيا التي تحتل المرتبة الـ27 عالميا. نتيجة يربطها فصيل من الخبراء والمحللين الاستراتيجيين بالعمل الجبار لأجهزة الاستعلام الغربية بوجه عام، والأوكرانية بالتحديد، التي نجحت في تحطيم أسطورة الجواسيس الروس، التي ولدت من رحم "الكاجيبي" KGB، خامس أقوى مخابرات في العالم، بمكوناتها الثلاثة، جهاز الأمن الداخلي والمخابرات الخارجية والاستخبارات العسكرية.
أكثر من ذلك، ظهرت قراءات في الآونة الأخيرة تتحدث عن هذه الحرب تتجه نحو ثورة في العمل الاستخباراتي، بالدفع نحو إعادة تعريف مهمة الجاسوسية. وكان آخرها ما نشرته الأكاديمية الأمريكية آيمي زيجارت Amy Zegart، في العدد الأخير من مجلة فورين أفيرز، بعنوان "أوكرانيا وثورة المخابرات المقبلة"، معتبرة أن الحرب في أوكرانيا بصدد إحداث تطور هائل في أدوات وآليات الاستخبارات الأمريكية والدولية.
تتضح معالم هذا التطور في استقراء عدد من الوقائع التي شهدتها هذه الحرب، دون أن تحظى بكثير عناية ولا اهتمام، من جانب وسائل الإعلام المنشغلة بمتابعة الأحداث اليومية، بدءا بإقدام أجهزة الاستخبارات الغربية على كشف قائمة طويلة، بأسماء وهويات وأرقام جوازات سفر من تعدهم جواسيس وعملاء مرتبطين بالحرب، تم تجنيدهم من قبل الجيش الروسي، داخل أوكرانيا وفي عدد من الدول الغربية، في سابقة هي الأولى من نوعها، أربكت خطط وحسابات الروس.
بالموازاة مع يوميات الصراع، استعان الجيش بالاستخبارات مفتوحة المصادر OSI التي تعد طفرة في العمل الاستخباراتي، حيث يتولى أناس مواطنون عاديون، وأحيانا مجموعات خاصة متطوعة، رصد خطط الجيش الروسي، وتحركاته بكل تفاصيلها على الأرض، لمصلحة الجيش الأوكراني بطرق لم تكن متخيلة في النزاعات السابقة. ما أسهم في نجاح عدد من العمليات العسكرية الأوكرانية، فهذه المعلومات كانت أساس إحداث كييف لضربات دقيقة ونوعية، من قبيل الهجوم على متجر إلكتروني اتخذه مستشفى ميدانيا، في إقليم خيرسون أثناء السيطرة الروسية عليه.
حضر التطور التكنولوجي بنصيبه في هذا الثورة، فالجاسوسية ذات المصادر المفتوحة وثيقة الصلة بالتكنولوجيا، فهي قناة التواصل بين المتطوعين في مناطق الصراع والجهات الرسمية في الجيش والأمن.. فتوفير الإنترنت للأوكرانيين بتقنية الأقمار الاصطناعية، رغم استهداف الجيش الروسي للبنيات التحتية التقليدية، شكل نقطة قوة لمصلحة الأوكرانيين، فبواسطتها ظل التواصل مفتوحا، فالمعلومة متدفقة من خطوط التماس مع العدو إلى مقر قيادة العمليات في كييف.
بذلك تكون الحرب الروسية - الأوكرانية أول حرب في التاريخ تدار اعتمادا على الاستخبارات المفتوحة المصدر التي اضطلعت فيها شبكات التواصل الاجتماعي بدور محوري، فهي بالنسبة لصناع القرار وقادة الحرب أشبه بقاعدة بيانات خاضعة للتحديث المستمر، تسمح بوضع الاستراتيجيات ورسم الخطط، بناء على ما تجود به من معلومات، تصل بحسب خبراء في هذه الحرب إلى نحو 80 في المائة. وتبقى بالنسبة للجمهور ملاذا موثوقا للخبر، ومصدرا حرا يكشف عن كل تفاصيل الحرب، بعيدا عن أجندات الإعلام الرسمي الموجه، كما هو الحال بالنسبة لمنصة "تيك توك" التي تضم وحدها نحو 1 /3 من سكان روسيا، أي ما يقارب 50 مليون روسي.
هكذا إذن تدخل الجاسوسية حقبة جديدة، فصناعة الاستخبارات على الصعيد العالمي، سائرة في منحى تجاوز عمل الوكالات السرية، أو على الأقل تعزيزه بآخر مفتوح المصادر في إطار التنافس والصراع بين الكبار. فضلا عن ضرورة التكيف مع تطورات عالم التكنولوجيا، فكم وحجم البيانات المتداول على مختلف منصات وسائل التواصل الاجتماعي، يتجه نحو تحجيم نطاق السرية في العمل الاستخباراتي. ويزيد دخول منافسين جدد على الخط الأمر تعقيدا، فالانفجار المعلوماتي وقدرات الأقمار الاصطناعية التجارية وتطورات الذكاء الاصطناعي... عوامل تتيح للأفراد والمؤسسات الخاصة جمع وتحليل ونشر – ولم لا الاتجار مستقبلا؟ - في المعلومات الاستخباراتية، وفقا لمنطق التجارة وقواعد السوق، ما يمثل تهديدا جديدا لفكرة السيادة بالنسبة للدولة.
تحول يجعل العمل الاستخباراتي يتعدى الصراع أجل معرفة "ماذا يجري في الجهة المقابلة من التل"، عملا بنصيحة ولنجتون، نحو تحصين الذات أولا، بضمان أكبر قدر من الحمايات للبيانات المتداولة على الإنترنت، ما يعني عكس المعادلة بشكل كلي، فتصير المهمة تورية وحجب هذه الجهة من التل قبل السعي نحو كشف واستطلاع ما يقع في الجهة المقابلة.