الهند ضد الصين .. كسب الرهان ينطلق من الداخل
مطلع القرن الحالي، ساد خطاب "القرن الآسيوي" الذي بشر بآفاق واعدة للقارة الآسيوية، وكانت الصين الدولة النموذجية تحول البوصلة من القارة العجوز باتجاه آسيا، بفضل صعودها السريع، على كل الجبهات والأصعدة، لمنافسة الكبار على قمرة قيادة العالم. كان نجاح بكين قصة ملهمة، لكن المعضلة ليست في الصعود، فمعظم الدول تجري -لكنها ليست عدائي مارثون- لكن قلة قليلة منهم عرفت كيف تحافظ على سرعة الفرار، فيما توقف السواد الأعظم بعد فترة وجيزة فقط.
توارد الكلام في الأعوام الأخيرة عن اقتراب الصين من بلوغ مرحلة التوقف، مع تعاقب مؤشرات فسرت على أنها بداية ذلك. وكانت المعطى الديمغرافي آخرها، فالتوقعات تفيد تراجع الصين، لأول مرة، على رأس قائمة الدول الأكثر سكانا، لمصلحة جارتها الهند، حيث يرتقب أن يبلغ إجمالي السكان بها، منتصف القرن الحالي، نحو 1.7 مليار نسمة. ما حدا بالخبراء إلى الهند بديلا عن الصين، على اعتبار أن نيودلهي تتوافر على كل المقومات، التي ساهمت في صناعة النموذج الصيني.
البديل الهندي حلم يراود صناع القرار في الهند، فالحلول مكان الصين يفتح أبواب الإقلاع الاقتصادي أمام بلد بمؤهلات متعددة، لا ينقصه سوى فن تدبير تناقضاتها، حتى يحجز لنفسه مكانة بين القوى الكبرى. وتزيد بيانات البنك الدولي الهند تحفيزا، حيث تظهر أن البلدين كانا في وضع اقتصادي متقارب إلى حد ما بقياس الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي، قبل أن يبدأ الفارق في الاتساع بينهما أواخر عقد الستينيات من القرن الماضي.
وتزداد حماسة الفيل الهندي لتعويض التنين الصيني، أخذا بعين الاعتبار الموقع الجغرافي الاستراتيجي للهند، وكذا حسن التموقع في خريطة الأحلاف السياسية على الصعيد العالمي، فلدى الهند حضور في محاور شبه متعارضة، فهي حليف تقليدي لروسيا والصين في تكتلات دولية وإقليمية مثل: البريكس وشنغهاي وغيرها. واقتربت في الآونة الأخيرة من معسكر واشنطن، بانضمامها إلى التحالف الأمني الرباعي "كواد" بجانب الولايات المتحدة وأستراليا واليابان.
تعمل نيودلهي على استغلال هذه التناقضات لمصلحتها، فاحتدام التنافس بين العواصم الكبرى "واشنطن وبكين وموسكو"، يمنح الهند أفضلية الاستغلال واقتناص الفرص. لأجل ذلك، سارعت إلى اعتماد استراتيجية شاملة تحت اسم "النظر شرقا"، قوامها بناء شراكات من منظور أوسع للمصالح المشتركة، بدلا من التحالفات الأيديولوجية، لمواجهة تهديدات الصين، المنافس الأكبر للدولة الهندية إقليميا ودوليا، وتقويض حضورها المتنامي في المحيطين الهادي والهندي.
تعززت هذه الاستراتيجية بمشاريع ضخمة، تسعى من ورائها لاستكشاف إمكانات الحلفاء في المنطقة، ما يساعد على تثبيت خيار "النظر شرقا"، وتدعيم سياسة "الهندوباسفيك" القديمة، التي وطدتها الهند بمزيد من العلاقات والتعاون الدفاعي والشراكة التجارية والبيئية مع رابطة أمم جنوب آسيا "الآسيان"، ومبادرة خليج البنغال للتعاون التقني والاقتصادي المتعدد القطاعات BIMSTEC، كل ذلك تحت شعار "الأمن والنمو للجميع في المنطقة"، فالإرث الغاندي حاضر بقوة في سياسات الهند السلمية القائمة على الاحتواء واللاعنف.
وجد الفيل الهندي نفسه محاصرا بأطماع التنين الصيني، منذ إطلاق مبادرة الحزام والطريق الطموحة للصين، وما اكتنفها من رغبات توسعية في جنوب آسيا، زادت من حدة الخلافات بين البلدين الجارين. فالهند ترى في هذا التوسع تعديا على منطقة نفوذها، كما تنظر إلى موانئ الصين في المحيط الهندي على أنها تهديد مباشر على مصالحها الاستراتيجية وأمنها.
يذكر أن التوتر الصامت بين الدولتين الذي اتخذ شكل منافسة اقتصادية بين الدولتين، سبق مبادرة الحزام والطريق بأعوام، فالصراع حول النفوذ في بلدان جنوب آسيا، مثل: بنجلادش والنيبال والمالديف.. شكل باستمرار نقطة ساخنة بين العملاقين الآسيويين. وكانت سيرلانكا الدولة المهمة ضمن مبادرة الحزام والطريق، آخر فصول هذه المواجهة، فنيودلهي تعدها جزءا من مجالها الحيوي، ما دفعها إلى التحرك خلال فترة الفراغ السياسي التي شهدتها البلاد، منتصف العام الماضي، عقب الإطاحة بالرئيس جوتابايا راجاباكسا، بالحرص على تأكيد حضورها في المشهد الداخلي للبلد.
استغلت الهند الأزمة الاقتصادية الحادة في كولومبو لكسر جاذبية النموذج الاقتصادي الصيني، بتسويق ذاتي قوامه تقديم الدعم المالي والتعاون العسكري وتوجيه الاستثمارات نحو البلد، وذلك رغبة في استعادة موقعها على رأس الشركاء التجاريين للبلد الذي خطفته بكين، عام 2021، بعد أن تجاوز إجمالي التبادل التجاري بين البلدين ستة مليارات دولار، متقدمة على نيودلهي التي وقفت عند رقم 5.8 مليار دولار برسم ذات العام.
بعيدا عن معركة كسر العظام بين الجارين، التي يتوقع الخبراء أن تشتد وطأتها مستقبلا، بسبب اصطفاف الهند في محور واشنطن، ورغبة الغرب في دعم الصعود الهندي لعرقلة الصين في سباقها نحو ريادة العالم، تفتقر الهند بلغة الأرقام إلى الشروط الموضوعية لكسب هذه المنافسة. فتنامي البعد القومي في أوساط النخب الهندية، انعكس بقوة على السياسات الداخلية، بتبني "القومية الاقتصادية" مع وصول حزب بهارتيا جاناتا، بقيادة ناريندرا مودي، إلى رئاسة الوزراء، وذلك بالتركيز في دعم الاستثمار على عملاقين هنديين هما: "أداني جروب" و"رليانس للصناعات". كان ذلك على حساب سياسة الانفتاح التي تبناها سلفه، بتوقيع 11 اتفاقية للتجارة الحرة مع الخارج، فيما لم تشهد فترة مودي توقيع أي اتفاقية على الإطلاق.
تشكل البنية التحتية بدورها حجر عثرة يقف في وجه الصعود الاقتصادي الهندي، رغم ما تحققه من معدلات نمو لافتة للانتباه، فعام 2021 اقتربت من 9 في المائة، متقدمة على الصين التي وقفت عند 8.1 في المائة، وأعلى بكثير من المعدل العالمي القريب من 6 في المائة. ناهيك عن مسألة الاستثمار في الرأسمال البشري الذي كسبت الصين رهانه، فرغم التقدم الهندي من الناحية العددية، تبقى مشاركة هذه الفئة العمرية في سوق العمل مأزقا كبيرا، فبرسم عام 2019 بلغت نسبة العاملين أو الباحثين عن العمل، من السكان النشيطين "15-64 عاما"، في الصين نحو 76 في المائة، فيما لم تتعد النسبة 52 في المائة فقط في الهند.
صحيح أن العالم بحاجة إلى الهند لملء الفراغ الذي قد تتركه الصين مستقبلا، ما يجعل الفرصة أمامها مواتية للإقلاع الاقتصادي بدعم من الغرب الراغب في سحب البساط من تحت الصين. كل هذا يبقى مجرد أماني ما لم تنجح الهند في تدبير تناقضاتها الداخلية، فالرهان الاقتصادي في النهاية هو فن إدارة التناقض.