320 مليار دولار لتمويل صحوة اليابان العسكرية

320 مليار دولار لتمويل صحوة اليابان العسكرية

لعقود من الزمن، أسست اليابان نفوذها الدولي على القدرة التنافسية الاقتصادية، وليست القوة العسكرية. لكن بعد أن أصبح ظل الصين المظلم المتطاول يخيم على عتباتها، يبدو أن اليابان بدأت تتخلى الآن عن سياستها الأمنية السلمية التي انتهجتها بعد الحرب ـ التي حددت للإنفاق الدفاعي سقفا لا يتجاوز 1 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، واجتنبت السعي إلى امتلاك القدرات الهجوميةـ لمصلحة تولي دور مركزي في الحفاظ على الأمن في منطقة الهادي - الهندي. بحسب ما يرصده براهما تشيلاني، أستاذ الدراسات الاستراتيجية في مركز أبحاث السياسات ومقره نيودلهي، مؤلف كتاب المياه والسلام والحرب، مواجهة أزمة المياه العالمية Rowman & Littlefield، 2013.
في الشهر الماضي كشفت اليابان عن استراتيجية جريئة جديدة للأمن القومي، تتضمن خطة لمضاعفة الإنفاق الدفاعي في غضون خمسة أعوام. هذا الإنفاق ـ الذي يصل في مجموعه إلى 320 مليار دولار ـ سيمول عملية تعزيز القوة العسكرية الأكبر في اليابان منذ الحرب العالمية الثانية، وسيمثل ثالث أكبر ميزانية دفاعية على مستوى العالـم بعد الولايات المتحدة والصين. الأمر المهم هنا هو أن الاستراتيجية الجديدة تشمل اكتساب قدرات ضربات الردع المضادة مثل صواريخ توماهوك الموجهة التي ستشتريها من الولايات المتحدة، وتطوير أسلحة فرط صوتية من إنتاجها.
بدأت اليابان تـرسي الأساس لهذا التحول في عهد رئيس الوزراء السابق آبي شينزو، الذي اغتيل في تموز (يوليو) الماضي. تحت إشراف آبي، زادت اليابان إنفاقها الدفاعي بنحو 10 في المائة، والأمر الأكثر أهمية أنها أعادت "بموافقة البرلمان" تفسير "دستور السلام" الذي فرضته الولايات المتحدة عليها بحيث يسمح للمؤسسة العسكرية بتعبئة القوات في الخارج للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية. سعى آبي أيضا إلى تعديل المادة التاسعة من الدستور، التي تنبذ "التهديد باستخدام القوة أو استخدامها" من جانب اليابان، لكن جهوده أهـدرت بسبب احتجاجات شعبية.
لم يواجه رئيس الوزراء فوميو كيشيدا القدر ذاته من المقاومة. على العكس من ذلك، تـظـهـر استطلاعات الرأي أن أغلبية اليابانيين تدعم تعزيز القوة العسكرية. حدث تحول مماثل لكيشيدا ذاته، الذي كان يـعـد بين الحمائم على نطاق واسع عندما كان وزيرا للخارجية ـ وهو الوصف الذي تبناه علنا.
الدافع وراء هذا التحول واضح. في 2013، عندما أصبح شي جين بينج رئيسا للصين، وصفت استراتيجية الأمن القومي اليابانية الصين بأنها "شريك استراتيجي". على النقيض من ذلك، تمثل الصين وفقا للاستراتيجية الـمـحـدثة "التحدي الاستراتيجي غير المسبوق والأعظم الذي تواجهه اليابان في سعيها إلى ضمان سلامتها وأمنها". الواقع أن نهج الصين التوسعي المتنامي الذي لا يلين في عهد شي جعل موقف اليابان المسالم غير مقبول.
كان هذا أشد وضوحا من أي وقت مضى في أعقاب العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، التي تسببت في اشتداد المخاوف من أن تلاحق الصين خيارا عسكريا ضد تايوان، التي تـعـد فعليا امتدادا لأرخبيل اليابان. في آب (أغسطس) الماضي، سقطت خمسة من الصواريخ التسعة التي أطلقتها الصين أثناء التدريبات العسكرية في المياه حول تايوان في المنطقة الاقتصادية الخالصة لليابان. ومن المفهوم أن تنظر اليابان إلى أمن تايوان باعتباره جزءا حيويا من أمنها.
اليابان ليست القوة الوحيدة التي كانت تصالحية ذات يوم وتستجيب الآن لنزعة بكين العضلية بعزيمة متجددة لتعزيز دفاعاتها وإحباط محاولات تحويل منطقة الهادي - الهندي إلى كتلة تتمحور حول الصين. فقد شرعت أستراليا والهند على المسار ذاته.
علاوة على ذلك، نشأ اتجاه مماثل نحو العسكرة بين حلفاء اليابان في الغرب. فقد تعهدت ألمانيا، وهي دولة أخرى مسالمة، بزيادة إنفاقها الدفاعي إلى 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي "وهو المستوى نفسه الذي يستهدفه كيشيدا" وقبول دور القيادة العسكرية في أوروبا. وقد تجاوزت المملكة المتحدة بالفعل مستوى 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، لكنها تسعى رغم ذلك إلى مضاعفة إنفاقها الدفاعي بحلول 2030. كما رفعت الولايات المتحدة للتو إنفاقها العسكري الضخم بالفعل 8 في المائة. والآن تنضم السويد وفنلندا إلى منظمة حلف شمال الأطلسي "الناتو" متجدد النشاط.
في حين أصبحت إعادة تسليح اليابان مقبولة على نطاق أوسع من أي وقت مضى ـ ولسبب وجيه ـ فمن غير المرجح أن تكون كافية لردع زحف الصين التوسعي. فعلى الرغم من امتلاك الهند ثالث أكبر ميزانية دفاعية على مستوى العالم، فقد عـلـقـت في مواجهة عسكرية مع الصين على حدود الهيمالايا المتنازع عليها منذ 2020، عندما باغتتها التعديات السرية من جانب جيش التحرير الشعبي. ولا تزال الاشتباكات تندلع بشكل متقطع، بما في ذلك في الشهر الماضي.
على النقيض من روسيا، التي شنت هجوما مباشرا عنيفا على أوكرانيا، تفضل الصين التكتيكات المتدرجة، مع اقتطاع أجزاء من أراضي دول أخرى بالاستعانة بخليط من التسلل والخداع والمفاجأة. من الواضح أن ما يسمى "الحرب الثلاثية" التي يخوضها جيش التحرير الشعبي، التي تركز على الجوانب النفسية، والرأي العام، والأبعاد القانونية لهذا الصراع، عملت على تمكين الصين من تأمين انتصارات استراتيجية في بحر الصين الجنوبي ـ من الاستيلاء على الحيد البحري جونسون ساوث في 1988 إلى احتلال سكاربورو شول في 2012 ـ دون أن تضطر إلى إطلاق أي رصاصة تقريبا.
ولأن الصين تتجنب في عموم الأمر الصراع المسلح، فإنها تتحمل أقل قدر من التكاليف الدولية عن أفعالها، حتى في حين تعيد من جانب واحد رسم الخريطة الجيوسياسية لبحر الصين الجنوبي، وتقضم أراضي بوتان الحدودية، قطعة صغيرة من أراضي الرعي في كل مرة. كما تمكنت الحكومة في بكين من تقويض الحكم الذاتي في هونج كونج دون أن تواجه عقوبات غربية ذات وزن.
لم يـزد تجاهل كل هذه الأفعال بكين إلا جرأة، وهي تسعى الآن إلى تكرار استراتيجية بحر الصين الجنوبي في بحر الصين الشرقي من خلال تصعيد التوغلات البحرية والجوية لتعزيز مطالبة الصين بجزر سينكاكو التي تديرها اليابان. حتى إن الصين حاولت تسيير دوريات شرطية في المياه قبالة سينكاكو.
ظل رد اليابان على استفزازات الصين مقيدا حتى الآن، وهذا أقل ما يـقال، فلم يـقـدم أي وزير دفاع ياباني على إجراء تفتيش جوي لجزر سينكاكو، خشية أن تغضب الصين. لكن اقتناء اليابان صواريخ توماهوك وأسلحة فرط صوتية لا يمثل بالضرورة وسيلة فاعـلة لمقاومة الحرب الهجينة التي تشنها الصين. ولهذا، يتعين على اليابان أن تعمل على إيجاد وسيلة فاعـلة لإحباط جهود الصين السرية الماكرة لتغيير الوضع الراهن في حين تتجنب خطر القتال الصريح.
يجب أن يكون سعي اليابان إلى الاعتماد على الذات بدرجة أكبر موضع ترحيب. فستـتـرجم القدرات الدفاعية المحسنة إلى يابان أكثر ثقة وأمانا ـ ومنطقة الهادي -الهندي أكثر استقرارا. لكن إذا كان لليابان أن تتمكن من "تعطيل وهزيمة" التهديدات، على حد تعبير استراتيجية الأمن القومي، فيجب على قادة اليابان أن يتحركوا بشكل استباقي للتغلب على الصين في اللعبة ذاتها التي تجيدها.

الأكثر قراءة