سياسات صحية دائمة .. الوقاية و«التأهب» أهم من العلاج
كشفت جائحة مرض فيروس كورونا 2019 كوفيد - 19، عن نقاط ضعف الأنظمة الصحية على مستوى العالم وافتقارها إلى القدرة على الاستجابة السريعة (التأهب). عندما كان الفيروس في أوج قوته، كافحت دول عديدة منخفضة ومتوسطة الدخل لإنقاذ الأرواح والحفاظ في الوقت ذاته على الخدمات الطبية الأساسية، مثل رعاية صحة الأمهات، والتحصين الروتيني للأطفال، وعلاج الأمراض غير المعدية.
بعد هذه الفترة المؤلمة، تقول مامتا مورثي هي نائبة رئيس قسم التنمية البشرية في البنك الدولي: "من المغري أن نستغرق في الأمل في أن نكون قد اجتزنا الأسوأ. من المؤسف أن المستقبل سيجلب في الأرجح أزمات متكررة في مجال الصحة العامة، نظرا إلى تغير المناخ، والتوسع الحضري، وإزالة الغابات، ونقص المياه، والتغيرات الطارئة على استخدامات الأراضي، وانتقال مسببات الأمراض من الحيوانات إلى البشر، والهشاشة الناجمة عن الصراعات".
للحد من تأثير الأزمات القادمة في حياة الناس وسبل معايشهم، يتعين على الحكومات أن تتخذ تدابير عاجلة لتعزيز مرونة أنظمتها الصحية. وفقا لتقرير حديث صادر عن البنك الدولي، يجب أن يكون النظام الصحي المرن متكاملا، ما يتيح تحديد التهديدات وعوامل الخطر بسرعة أكبر، وسريع الحركة، ما يجعله قادرا على الاستجابة بسرعة للاحتياجات المتطورة، وامتصاص الصدمات واحتوائها، ومتكيفا، للحد من ارتباكات الخدمات الصحية.
كان البنك الدولي حريصا على العمل مع البلدان المنخفضة ومتوسطة الدخل على دعم أجندة المرونة هذه.
تشمل حافظتنا المخصصة للصحة العالمية، التي تبلغ قيمتها 34 مليار دولار أكثر من 240 مشروعا لمساعدة البلدان على اتباع نهج شامل لتحسين النتائج، خاصة لمصلحة الفقراء والمستضعفين، من خلال تعزيز الرعاية الأولية ووظائف الصحة العامة الرئيسة.
على سبيل المثال، في حزيران (يونيو) 2022، وافق البنك الدولي على المساهمة بمبلغ 258 مليون دولار في برنامج الدعم الصحي الوطني في باكستان، الذي يسعى إلى تعزيز قوة العمل في مجال الصحة وتجهيز مراكز الصحة المجتمعية على النحو الذي يمكنها من الاستجابة بشكل أفضل لحالات الطوارئ وتقديم خدمات عالية الجودة، خاصة للمجتمعات الأكثر ضعفا وعـرضة للمخاطر.
يـعـد صندوق مكافحة الجوائح الـمـرضية، الذي أنشئ حديثا أداة إضافية لسد الثغرات الحرجة من خلال المساعدة على توجيه الدعم المالي المطلوب بشدة إلى البلدان النامية لتعزيز جهودها الرامية إلى دعم تدابير الوقاية والاستجابة وتحسين الاستعداد والتأهب قبل اندلاع الأزمة الصحية التالية. تأسس الصندوق بدعم من مجموعة العشرين، ويديره مجلس شامل يضم ممثلين من الجهات المانحة السيادية، وحكومات البلدان المتلقية، والمؤسسات الخيرية، ومنظمات المجتمع المدني. وحصل صندوق الجوائح بالفعل على تعهدات بقيمة 1.6 مليار دولار، وأعلن للتو عن الجولة الأولى من التمويل.
هذه الموارد الإضافية الطويلة الأجل من شأنها أن تساعد البلدان على تعزيز أنظمة الصحة العامة، وزيادة الوعي بالمخاطر، وتحسين وظائف الإنذار المبكر، وزيادة عدد العاملين في مجال الصحة المجتمعية. ومن الممكن أن يساعد التواصل القوي والمشاركة المجتمعية على تعزيز الثقة وبناء شراكات متينة تدعم الاستجابة السريعة الفـعـالة للأزمات.
مع تقدم البلدان نحو التعافي بعد الجائحة، فإنها تواجه تحديات إضافية مثل التضخم، والقدرة على تحمل الديون، وتغير المناخ، والشيخوخة السكانية، وعبء ضخم من الأمراض المزمنة، والتحديات المرتبطة بالمساواة الاجتماعية والاقتصادية والمساواة بين الجنسين. الواقع أن الأنظمة الصحية المرنة قادرة على التخفيف من تأثير هذه التحديات من خلال تحسين جاهزية الخدمات لمنع وإدارة أزمات صحية أخرى من خلال تعزيز الوظائف الأساسية.
ستتفاوت الاحتياجات والمناهج المتبعة باختلاف البلدان والمناطق. على سبيل المثال، تخطط كمبوديا، التي تقع في منطقة ساخنة من مناطق الأمراض المعدية الناشئة، لتعزيز التعاون المتعدد القطاعات لدمج الصحة البشرية، والحيوانية، والبيئية. وتسعى كينيا إلى تعزيز قدراتها في الرصد والأعمال المختبرية في مكافحة العدوى. كما تستهدف بنجلادش زيادة قدرات مرافقها الصحية، وقوة العمل الصحية، ومختبرات علم الأحياء الدقيقة للتعامل مع الجوائح في المستقبل.
في مختلف أنحاء العالـم، ستكون الإدارة الصحية القوية ومؤسسات الصحة العام القوية، المدعومة بأطر قانونية وتنظيمية مستقرة، شديدة الأهمية لضمان اتخاذ القرارات القائمة على الأدلة والتخطيط السليم للأزمات. تحتاج البلدان أيضا إلى إيجاد حيز مالي واجتذاب واستخدام الموارد الخارجية بحكمة، مع إدراك حقيقة مفادها أن الاستثمار في الأنظمة المتكاملة المرنة من شأنه أن يحقق أعظم الأثر. تساعد الاستثمارات الأكثر فاعلية من حيث التكلفة في تعزيز وظائف الصحة العامة، وتعزيز الصحة، والوقاية من الأمراض، وخدمات الرعاية الصحية الأولية، وبالتالي تقليل الارتباكات عند حدوث الصدمات. من خلال منع التكاليف الأكبر كثيرا المرتبطة بطوارئ الصحة العامة، تعود مثل هذه النفقات بفوائد طويلة الأمد.
يتطلب بناء القدرة على الصمود إقامة الشراكات داخل قطاع الصحة وخارجه، فضلا عن المشاركة مع منظمات المجتمع المدني والقطاع الخاص، التي لعبت دورا مهما في الاستجابة لجائحة كوفيد - 19. تشمل الحماية من الصدمات الصحية أيضا تعزيز القدرة البحثية واحتضان الإبداع من خلال التعقب السريع للتكنولوجيات الطبية الجديدة أو توسيع نطاق استخدام التكنولوجيا الرقمية في تسليم الرعاية الصحية.
الواقع أن المهمة بالغة الضخامة، لكن أزمات الماضي تقدم لنا دروسا قيمة وتوضح ما يمكن تحقيقه. على سبيل المثال، أدت فاشية إيبولا، التي اندلعت خلال الفترة من 2014 إلى 2016، التي قتلت أكثر من 11 ألف شخص في غرب إفريقيا، إلى التعجيل بإنشاء المراكز الإفريقية لمكافحة الأمراض والوقاية منها في مختلف أنحاء القارة، ما أدى بدوره إلى تحسين قدرات المراقبة والرصد في المنطقة.
مع انحسار جائحة كوفيد - 19، فإن هذا أيضا ليس وقت التراخي والرضا عن الذات. لقد شهدنا جميعا التأثيرات المدمرة التي خلفتها الجائحة. تشير تقديرات منظمة الصحة العالمية إلى أن ما يقرب من 15 مليون وفاة زائدة في مختلف أنحاء العالم خلال عامي 2020 و2021 يمكن أن تـعزى إلى جائحة كوفيد - 19، التي تسببت أيضا في تقويض المكاسب التي تحققت بشق الأنفس في الحد من الفقر، ودعم التعليم والصحة والمساواة بين الجنسين.
يتطلب تعزيز القدرة على الصمود والتأهب اتخاذ تدابير حاسمة. من المؤكد أن المستقبل سيحمل مزيدا من الأزمات، وعلى هذا، فإن البلدان التي تتخذ الاختيارات السياسية الصحيحة في وضع سياسات دائمة وقابلة للاستمرار الآن ستكون في أفضل وضع ممكن لحماية صحة سكانها واقتصاداتها.