التبرع بالطعام .. حل لمفارقة الوفرة والاحتياج
عادت فكرة بنوك الطعام لتصدر واجهة النقاش العمومي في الولايات المتحدة الأمريكية، بعد نجاح الكونجرس أخيرا في إقرار قانون تحسين التبرع بالطعام، لمواجهة شبح انعدام الأمن الغذائي الذي يهدد 35 مليون أمريكي، ما يعادل 10 في المائة من سكان الدولة. في محاولة لتدارك فراغات قانون بيل إيمرسون للتبرع بالطعام، لعام 1996، التي تحول دون نجاعة وفاعلية هذا التشريع. كل ذلك، قصد تخفيف ضغوط تضخم الأسعار نتيجة الاضطراب في سلاسل الإمدادات بفعل تداعيات جائحة كورونا ثم الحرب الروسية - الأوكرانية، وقبل ذلك وبعده أزمة التغير المناخي.
ظهرت بنوك الطعام، لأول مرة، في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1967، لمواجهة الجوع بتوفير الطعام للأشخاص المحتاجين، عن طريق جمع الطعام المتحصل عليه، من المزارعين والمصنعين والموزعين والتجار من أصحاب الفوائض في الأطعمة، أو من أفراد متطوعين يسهمون عن طريق شراء الطعام من المتاجر والمحال لمصلحة البنك، أو من خلال تسليم ما فضل لديهم من طعام في منازلهم، بغرض إيداعه في أماكن مخصصة لهذه الغاية، يقصدها عموم الأشخاص، الذين يجدون صعوبة في اقتناء ما يحتاجون إليه من أغذية ومأكولات.
يعزى انتعاش هذه البنوك إلى تخفيف القانون الجديد من حدة القيود المفروضة على التبرع بالطعام، بإسقاط جملة من القواعد من قبيل: إلزامية الفحص والمسؤولية وغيرهما من العراقيل التي تدفع شريحة عريضة نحو الامتناع عن التبرع. خذ على سبيل المثال، نص قانون إيمرسون على إجبارية تمرير التبرعات عبر قناة منظمات المساعدات الغذائية، حيث يضطر المتبرع، فردا كان أو مطعما، إلى التنقل لمسافة طويلة أحيانا نحو مقر المؤسسة أو البنك لتسليم فائض الطعام، الذي سيعود في النهاية إلى أسرة جائعة في محيط منزله مباشرة. ما يجعل الأكثرية تختار الدفع بالطعام نحو النفايات بدل الإغراق في البيروقراطية المقيتة لإجراءات التبرع.
يتوقع أن يخفف هذا التشريع من إهدار الأمريكيين الطعام الذي يتصدرون فيه قائمة دول العالم، فنحو خمسة مليارات طن من المواد الغذائية التي تعادل 40 في المائة من الأطعمة في الدولة سنويا، ينتهي بها المطاف إلى التعفن في الحقول أو القذف بها في مكب النفايات. من موقع المستهلك، تفيد ورقة بحثية في المجلة الأمريكية للاقتصاد الزراعي، عدد آذار (مارس) 2020، بأن الأسرة الأمريكية المتوسطة تنفق ما يقارب 1900 دولار سنويا على طعام لا تأكله. وعلى الصعيد البيئي، يتسبب الطعام المهدور في إنتاج زهاء 10 في المائة من إجمالي الغازات الدفيئة في العالم.
تراهن الإدارة الأمريكية على قانون تحسين التبرع بالغذاء الذي وقعه الرئيس قبل أيام، من أجل التخفيف من وطأة أزمة الغذاء، فمن شأن الليونة التي تطبع مواد القانون أن تدفع نحو إيجاد حل للمفارقة الغريبة للطعام بين الوفرة والاحتياج في الولايات المتحدة الأمريكية. وإن تعالت أصوات بعد صدور القانون للمطالبة بمزيد من الإجراءات، باعتبار مقتضيات تسهيل التبرع بالطعام وحدها غير كافية، داعية إلى سن قواعد تحفيزية، كتمديد نطاق الحوافز الضريبية ليضم التبرعات الغذائية، أو اتباع النهج الإلزامي، كما هي الحال في ولايتي نيويورك وكاليفورنيا، حيث تجبر قطاعات معينة تعرف بفوائض في الطعام المتحصل لديها على التبرع.
الدول الأوروبية ليست أفضل حالا من الولايات المتحدة، ولا سميا بعد عجز أنظمة الرعاية الاجتماعية الرائدة أوروبيا، عن توفير المساعدات للفقراء، نتيجة تراجع عن السياسات الاجتماعية أو جراء مشكلات في التمويل. فقد زادت أعداد بنوك الطعام في القارة العجوز منذ الأزمة الاقتصادية، قبل أن يتصاعد الرقم بعد وباء كورونا وما تلاه من أزمة اقتصادية خانقة، أفرزت معادلة جديدة، مضمونها متبرعون بالطعام أقل مقابل إقبال متزايد على بنوك الطعام، فعدد المستفيدين قبل الجائحة كان واحدا من كل عشرة أشخاص. فيما ارتفعت، برسم العام الماضي، إلى واحد من بين ستة أشخاص.
في بريطانيا مثلا تتحدث التقارير عن أن الوضع الاقتصادي المتأزم، الذي يسجل نسبة تضخم وصلت إلى 10 في المائة، زاد من طول الطوابير على الأرصفة في شوارع المملكة للحصول على طعام مجاني من بنوك الطعام في الدولة. فالأرقام تفيد بأن سبعة ملايين شخص بلا طعام، لدرجة أن صحفا كتبت، بسخرية سوداء لاذعة لمنطق الرأسمالية الجشع، أن "الدولة التي تعد إحدى أقوى الدول العظمى في العالم، أصبحت لديها اليوم بنوك طعام أكثر من مطاعم الوجبات السريعة مثل ماكدونالد وكي إف سي".
خارج أوروبا، تحاول اليابان جاهدة إبداع طرق للحيلولة دون هدر الطعام، بعدما ضيعت خلال عام 2020 فقط ما يقارب 5,22 مليون طن من الأطعمة. يمثل هذا الرقم 1,2 من إجمالي المساعدات الغذائية التي قدمها برنامج الأمم المتحدة للأغذية العالمي، عن العام ذاته، الذي بلغ 4,2 مليون طن. فاهتدت إلى "قاعدة الثلث" في صناعة المواد الغذائية، فبمقتضاها يجبر صناع المواد أو تجار الجملة على تسليم المواد إلى تجار التجزئة خلال 1/3 العمر الافتراضي للسلعة، مقابل ذلك لا يسمح لهؤلاء إلا ببيع المنتجات التي دخلت في مجال 2/3 من الوقت المتبقي على انتهاء الصلاحية.
عالميا، لا يزال هدر الطعام ظاهرة مثيرة للقلق، فالتقارير تفيد بأن ما يعادل 1/3 الطعام المخصص للاستهلاك البشري مصيره الهلاك، في وقت يعاني فيه واحد من كل تسعة أشخاص نقصا في التغذية على الصعيد العالمي، ما يحول المسألة إلى ظاهرة تحتاج إلى عناية واهتمام كبيرين. فلا يستقيم أن تنتج الأرض ما يكفي من الغذاء لإطعام كل فرد عليها، وفي الوقت نفسه يعاني نحو مليار إنسان الجوع كل يوم. ويبقى الرهان الأكبر على أن إيقاف هدر الطعام يتعدى كسب معركة إطعام البشر، نحو المساهمة في حماية كوكب الأرض من شبح التغير المناخي.