خطاب حالة الاتحاد .. امتزجت المشاعر والعواطف بالمؤشرات والأرقام

خطاب حالة الاتحاد .. امتزجت المشاعر والعواطف بالمؤشرات والأرقام

تطلب خطاب الرئيس الأمريكي جو بايدن عن حالة الاتحاد 75 دقيقة، وهي فترة طويلة نسبيا، أمام جلسة مشتركة لمجلسي النواب والشيوخ في العاصمة واشنطن. خطاب انتظره المراقبون طويلا، لكونه تقليدا سنويا، يبسط فيه الرؤساء الأمريكيون مواقف إدارتهم حيال مختلف القضايا الداخلية والخارجية للبلاد. علاوة على كونه ثالث مناسبة يتكلم فيها الرئيس بايدن أمام المجلسين معا، لكنها المرة الأولى التي يلقي فيها خطابا أمام كونجرس في غاية الانقسام على نفسه.
تزداد أهمية خطاب الاتحاد لهذا العام، اعتبارا للسياق الذي يلقى فيه، فالرئيس يخاطب الكونجرس، بعد عام من اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية، في 26 شباط (فبراير) من العام الماضي، وبعد أشهر على محطة الانتخابات النصفية، بتاريخ 8 تشرين الثاني (نوفمبر)، وبعد أيام على حادثة إسقاط طائرة مقاتلة في سلاح الجو الأمريكي منطادا صينيا، فوق ساحل كارولينا الجنوبية، في 4 شباط (فبراير) الجاري.
لكن إدارة الرئيس بايدن فضلت بناء الخطاب، وفق منظورها الخاص بالأحداث، فما يجري في أصقاع العالم من أزمات وصراعات، خلف تصدعات كبرى في المحاور والأحلاف، يبقى محدود التأثير في أعين صناع القرار الأمريكي. فالشائع أن الأمريكيين لا يكترثون بالسياسة الخارجية، إلا إذا كان جنود الولايات المتحدة يقتلون في الخارج. لذلك جاء مضمون الخطاب منسجما مع المقولة الشهيرة "أمريكا أولا.. والسياسة الخارجية أخيرا".
معارك الداخل قبل الخارج
بدا الرئيس بايدن في خطابه غير مبال بما يجري خارج حدود بلاده، فقد أهمل معظم القضايا الإقليمية والدولية التي تشغل بال العالم، بدءا من الحرب الروسية - الأوكرانية، حيث اكتفى بالتأكيد -مخاطبا السفير الأوكراني- على دعم بلاده لأوكرانيا، "سنقف إلى جانبكم مهما استغرق الأمر. أمتنا تعمل من أجل مزيد من الحريات والسلام... ليس فقط في أوروبا بل في كل مكان".
واكتفى في الصراع مع الصين بإشارات عابرة، رغم حداثة واقعة المنطاد، معتبرا واشنطن لا تسعى إلى الدخول في الصراع والمواجهة مع بكين، إنما ترغب وبشدة في التنافس والتباري معها في مختلف المجالات. وزاد بأن بلاده تطمح إلى التفوق على الصين، ولا سميا في القطاعات العلمية والتكنولوجية، فالولايات المتحدة "في أقوى موقع منذ عقود للمنافسة مع الصين أو أي طرف آخر في العالم". مع التأكيد على أن واشنطن لن تقبل الترهيب أيا كان مصدره، "لا تسيئوا فهمنا: كما أظهرنا بوضوح الأسبوع الماضي، إذا هددت الصين سيادتنا فسنعمل على حماية بلادنا، وفعلنا ذلك".
تجاهل الخطاب بشكل كلي قضايا آنية، كالزلزال الذي ضرب كلا من سورية وتركيا، وما خلفه من أزمة إنسانية استرعت تضامن مختلف دول العالم مع ضحايا الكارثة الطبيعية. وأسقط أي إشارة، ولو عابرة، للمفاوضات بشأن البرنامج النووي الإيراني، أو الصراع العربي - الإسرائيلي، وما يشهده من تصعيد، مع وصول أكثر الحكومات تطرفا إلى السلطة في تل أبيب.
اختار الرئيس بعناية وذكاء فقرات خطابه، فإدارته تدرك جيدا أن اللحظة مناسبة لاستثمار عائد عامين في الحكم. لأجل ذلك ركز في الأساس على ما حققه من أداء ونتائج في قضايا الشأن الداخلي الأمريكي، خاصة أن خطاب الاتحاد يحظى بمتابعة شريحة عريضة من المواطنين الأمريكيين عبر وسائل الإعلام.
خطاب النجاح والمنجزات
كانت ثمار التعافي الاقتصادي من تبعات جائحة كورونا حجر الزاوية في الخطاب، مع التذكير، فيما يشبه ضربة موجعة للجمهوريين، بأنه نجح في تحريك عجلة اقتصاد تسلمه في حالة يرثى لها، بفعل التقاء خيارات خاطئة للرئيس ترمب مع تداعيات فيروس كوفيد - 19. فقد تمكن من إيجاد ملايين الوظائف خلال عامين، "بينما أقف هنا الليلة، فقد حققنا رقما قياسا بلغ 12 مليون وظيفة جديدة... أكثر مما وفره أي رئيس في أربعة أعوام"، مع تخفيض نسبة البطالة إلى مستويات قياسية، إذ لم تتجاوز 13,4 في المائة.
نتائج تحققت بفضل دعم الحزب الجمهوري، ما دفع الرئيس إلى مناشدتهم البقاء أوفياء للنهج ذاته، حين قال "بالنسبة إلى أصدقائي الجمهوريين، إذا تمكنا من العمل معا في الكونجرس الأخير، فلا يوجد سبب يمنعنا من العمل معا في هذا الكونجرس الجديد"، وزاد بلغة مشحونة بالعواطف والإيحاء "لقد أرسل لنا الناس رسالة واضحة، القتال من أجل القتال، والسلطة من أجل السلطة، والصراع من أجل الصراع، لا تقودنا إلى أي شيء".
وبنبرة الوحدة والاصطفاف، فند مزاعم عن "أن الديمقراطيين والجمهوريين لا يمكن أن يتعاونوا مع بعضهم بعضا"، "لكن خلال العامين الماضيين أثبتنا خطأ المشككين والمتشائمين"، مذكرا بما تحقق في التعاطي مع أزمة المناخ التي أضحت في نطر الإدارة الحالية، وعكس السابقة تماما، تمثل تهديدا وجوديا. معلنا افتخاره بتصدي الولايات المتحدة لهذا التحدي. فالمشكلة المناخية، بحسب الرئيس، "لا يهمها إن كنت في ولاية حمراء أو زرقاء. إنها تهديد وجودي. لدينا التزام ليس تجاه أنفسنا فقط، بل تجاه أطفالنا وأحفادنا لمواجهة هذه الأزمة".
وبدهاء السياسي المتمرس، يسجل بايدن بين الفينة والأخرى أهدافا في مرمى الجمهوريين، تمكنه من ترجيح كفة الديمقراطيين لدى المواطن الأمريكي. فقد أعلن أن الحاجة ماسة إلى محاربة الاحتكارات الكبرى، بفرض ضرائب متصاعدة على الأغنياء، معتبرا "الرأسمالية بدون منافسة ليست رأسمالية، بل ابتزاز واستغلال". كاشفا أرقاما صادمة أمام الأمريكيين، حين صرح بأن "55 شركة أمريكية كبرى حققت في عام 2020 أرباحا تصل إلى 40 مليار دولار، من دون أن تدفع سنتا واحدا من الضرائب. حان الوقت لتدفع هذه الشركات نصيبها، فالقانون الجديد سيلزمها بدفع ضرائب تصل إلى 15 في المائة".
حملة مبكرة للديمقراطيين
حاول زعيم الديمقراطيين توجيه الأنظار نحو المستقبل، فيما يشبه عرض برنامج انتخابي أمام أنظار الأمريكيين، فقد ضمن الخطاب قائمة من المقترحات، للدعاية والتأييد أكثر من الطموح نحو تحويلها إلى قوانين، من قبيل: فرض تشريع الرقابة على الأسلحة والمطالبة بإصلاح الشرطة، إذ توسل وبشدة إلى المشرعين من أجل ذلك، عند تقديمه لوالدي تايري نيكولز، الشاب الذي توفي إثر تعرضه لضرب مبرح من قبل ضباط الشرطة. مواسيا أبوي الضحية بلغة شاعرية بقوله "كما يعلم كثير منكم بصفة شخصية، لا توجد كلمات يمكنها أن تصف الأسى والألم الناتجين عن فقدان أحد الأبناء، فتخيلوا أن تفقدوا هذا الابن على يد القانون".
لم يفوت الرجل الفرصة للتذكير بأزمة الديمقراطية في أمريكا، وما أحدثته التهديدات التي تعرض لها مبنى الكونجرس من جانب أنصار ترمب، من شرخ داخل المجتمع الأمريكي، معتبرا "الديمقراطية لا تقهر" في البلاد. مشيرا إلى المشرعين وعموم المواطنين بأن قصة أمريكا هي "قصة تقدم وقدرة على الصمود والمضي قدما دائما، وعدم الاستسلام أبدا. قصة فريدة من نوعها بين جميع الأمم. نحن الدولة الوحيدة التي تخرج من كل أزمة أقوى مما كانت عليه عندما دخلت فيها. وهذا ما نفعله مرة أخرى".
وأعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن في نهاية خطاب حالة الاتحاد، عزمه على "إنجاز المهمة"، بإعادة الوحدة إلى الولايات المتحدة والازدهار، ما يثبت أن مضمون الكلمة يستهدف الموطن الأمريكي في الداخل الأمريكي، لذلك امتزجت المشاعر والعواطف بالمؤشرات والأرقام، ما يعزز فرضية كون خطاب هذا العام، مفصلا على مقاس التحضير للانتخابات الرئاسية المقبلة، حتى وإن لم يعلن بايدن، بشكل رسمي، الترشح لولاية ثانية، ففي الكلمة أكثر من مؤشر على أن الحملة الانتخابية انطلقت لدى الديمقراطيين مبكرا.

الأكثر قراءة