المنافسة في صياغة مستقبل النظام الدولي

المنافسة في صياغة مستقبل النظام الدولي
المنافسة في صياغة مستقبل النظام الدولي

رغم أن القوى العالمية قد لا تتفق على كثير من الأمور في أيامنا هذه، إلا أن معظمها يدرك أن العالم يمر بمرحلة حرجة، وتسمى في سياق استراتيجية الأمن القومي للرئيس الأمريكي، جو بايدن، "العقد الحاسم" في المنافسة في صياغة مستقبل النظام الدولي. كذلك، يجادل الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بأن العالم بدأ يدخل في عقد زمني "يعد الأشد خطورة وتقلبا، وفي الوقت نفسه الأكثر أهمية منذ عقد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية". ويرى المستشار الألماني، أولاف شولتس، أن الغزو الروسي يمثل نقطة فاصلة، ما يعني "أن العالم بعده لن يكون كما كان من قبل".
ولكن على الرغم من التصور الشائع بأن النظام الدولي يمر بنقطة تحول، إلا أن لا أحد يعرف حتى الآن وجهته، أو الانقسامات والرؤى الاستراتيجية التي ستشكله بصورة حاسمة في المستقبل. بحسب التقرير المشترك لتوبياس بوندي، مدير الأبحاث والسياسات في مؤتمر ميونيخ للأمن، وصوفي إيزنتراوت رئيسة قسم الأبحاث والمنشورات في مؤتمر ميونخ للأمن.
فقد عززت حرب روسيا ضد جارتها (ودعم الصين الضمني لروسيا) الانطباع لدى الديمقراطيات الليبرالية بأن المراجعين الاستبداديين يمثلون أخطر تهديد للنظام الدولي القائم على القواعد. إذ تخشى الديمقراطيات في منطقة المحيطين الهندي والهادئ أن أوكرانيا اليوم قد تكون شرق آسيا غدا، وهذا ما قاله رئيس الوزراء الياباني "فوميو كيشيدا". ولا يحاول المستبدون إيجاد مجالات نفوذ جديدة فقط، بل يفرضون تحديات جديدة على القواعد والمعايير الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، والبنية التحتية العالمية، والتنمية، وأمن الطاقة، والاستقرار النووي.
ولكن الديناميكيات داخل كل من هذه المجالات وفيما بينها أكثر تعقيدا بكثير مما قد يوحي به انقسام بسيط بين الديمقراطية والأوتوقراطية. فعديد من البلدان النامية تشتكي بشدة مما تعده نظاما اقتصاديا أخفق في خدمة مصالحها. إذ تعرضت التجارة المفتوحة (والبنية التحتية التي تيسرها) لضغوط من عدة اتجاهات مع قيام القوى الكبرى بتسليح الروابط التجارية، واللجوء إلى الحمائية. وحتى فيما يتعلق بحقوق الإنسان- وهي قضية مرتبطة ارتباطا وثيقا بالنظام الدولي القائم على القواعد الليبرالية - لا تتفق الديمقراطيات مع بعضها بعضا دائما، بل في الأغلب ما تفشل في التصويت معا على قرارات الأمم المتحدة.
وتنعكس هذه التعقيدات بصورة أكبر في البيانات الجديدة من مؤشر ميونيخ للأمن 2023، الذي وضعه مؤتمر ميونيخ للأمن، وشركة "Kekst CNC"، الذي يستند إلى استطلاعات الرأي العام في بلدان مجموعة دول السبع الكبرى، والبرازيل، والهند، والصين، وجنوب إفريقيا (دول البريكس "BRICS"، باستثناء روسيا)، وأوكرانيا. وعندما سئلوا عن الانقسام الرئيس في السياسة العالمية اليوم، كانت إجابة النسبة الكبرى من المستجيبين (23 - 46 في المائة) تشير بالفعل إلى الانقسام بين الديمقراطيات والديكتاتوريات. ولكن الانقسامات الجيوسياسية الأخرى تظهر أيضا بجلاء، بما في ذلك الانقسامات بين الدول الغنية والفقيرة، وبين الدول التي تدعم نظاما دوليا قائما على القواعد وتلك التي لا تدعمه.
وليس الأوتوقراطيون وحدهم من يشعرون باستياء عميق إزاء الأعراف والمؤسسات الدولية القائمة. إذ يعزي عديد من الناس في آسيا، وإفريقيا، وأمريكا اللاتينية، سيطرة ما بعد الاستعمار، والمعايير المزدوجة، والإهمال لمخاوف البلدان النامية إلى النظام الذي يقوده الغرب، وليس إلى المبادئ الليبرالية والتعددية. ومع ذلك، على الرغم من انشقاق عديد من الدول عن النظام الدولي القائم وأوصيائه الفعليين، فإن هذه المجتمعات لا تنظر بالضرورة إلى العالم من خلال عدسة "الغرب ضد بقية العالم".
ورغم أن الأوتوقراطيين التعديليين يصورون النضالات الجيوسياسية المعاصرة انطلاقا من هذا المفهوم، فإن عديدا من المشاركين في الاستطلاع في البرازيل، والهند، وجنوب إفريقيا ليس لهم التصور نفسه. كما أن الانشقاق عن النظام العالمي لا يترجم بالضرورة إلى دعم التحريفية الاستبدادية. وعندما طلب منهم تقييم جاذبية القواعد التي شكلتها في الأغلب روسيا والصين، مقارنة بتلك التي وضعتها الولايات المتحدة وأوروبا، أظهر المشاركون في الهند، والبرازيل، وجنوب إفريقيا، تفضيلا واضحا للأخيرة. وعلى غرار ونستون تشرشل، يبدو أن عديدا من البلدان ترى أن النظام الدولي الليبرالي القائم على القواعد أسوأ أنواع الأنظمة.
ومع اختلاف الشواغل والانقسامات، فإن مجرد الدفاع عن الوضع الراهن ليس خيارا للقوى التي تريد أن تسود القواعد والمبادئ الديمقراطية الليبرالية، بل يجب أن تحسن الديمقراطيات الليبرالية على وجه السرعة من رؤيتها للنظام الدولي.
ولجعل النظام الليبرالي أكثر جاذبية لدائرة عالمية ذات نطاق أوسع، يجب أن يتجاوز دعاة هذا النظام المنظور الضيق للمنافسة النظامية. فعلى الرغم من أن التنافس بين الديمقراطيات والأنظمة الاستبدادية هو إحدى السمات المميزة للسياسة العالمية اليوم، إلا أنه يجب عدم التغاضي عن الانقسامات العديدة الأخرى التي تشكل الرأي العام. وفقط من خلال المساءلة عنها، يمكن للديمقراطيات الليبرالية أن توضح كيف ستعالج قواعدها الدولية المنقحة مخاوف الناس المشروعة.
ويشير تقرير ميونيخ الأمني إلى بعض الأسئلة الرئيسة. كيف يمكن إصلاح نظام التجارة العالمي لتعزيز الرخاء المتبادل وتخفيف نقاط الضعف التي تنتج عن الترابط العالمي؟ كيف يمكن لمعايير حقوق الإنسان وآليات الإنفاذ أن تربط حماية الحريات الفردية بمفاهيم جماعية للرفاهية بصورة أفضل؟ والأهم من ذلك، كيف يمكن للنظام الدولي الليبرالي أن يمثل تمثيلا أفضل عديدا من البلدان التي كانت حتى الآن جزءا من صانعي القواعد؟ إن الفظائع والتكاليف الناجمة عن حرب روسيا وأوكرانيا تظهر أن النظام الدولي لا يحتاج قطعا إلى مراجعة. ولكنه في حاجة ماسة إلى "إعادة تصور" للمؤسسات والعمليات والأطر الرئيسة، حتى يدعم بصورة أفضل المبادئ التي تأسس عليها.

الأكثر قراءة