بالأرقام .. كم ينفق العالم لترميم ذاته؟
في بيته في مقاطعة توهوكو الريفية شرق اليابان، جلس المواطن تاكيشي، يتابع أخبار أول شهرين من العام الجديد 2011، التي بدت مثيرة وحاسمة، تماما كالعام الماضي الذي اختلط فيه الضحك بالبكاء، فالعالم الذي احتفى بمونديال 2010 لأول مرة في إفريقيا، وتنفس الصعداء بتوقيع معاهدة تقليص الأسلحة الاستراتيجية الهجومية وعودة العلاقات بين روسيا وأمريكا، وعرف حقائق كثيرة حين ظهر موقع "ويكليكس" ناشرا آلاف الوثائق السرية الأمريكية، هو العالم نفسه الذي بكى وتألم بسبب كوارث طبيعية حطمت الأرقام القياسية من حيث عدد الضحايا الذي وصل إلى 260 ألفا ما بين زلازل وبراكين وأعاصير، بعد أن كان المعدل 15 ألف ضحية فقط في 2009.
هذا المشهد من مارس 2011 عاشه تاكيشي، قبل أن تتعرض بلدته مع بلدان أخرى شرق اليابان لزلزال عنيف وصلت درجته إلى 8.9 على مقياس العزم الزلزالي، وقدرت قوته بثمانية أضعاف قوة القنبلة النووية التي سقطت على هيروشيما 1945، أما عدد ضحاياه فبلغ 15 ألف ضحية، تبعتهم عدة مئات أخرى نتيجة موجات التسونامي التي سببها الزلزال في المحيط الهادئ. وبعيدا عن الخسائر البشرية التي هي أغلى ما يمكن فقده في هذا العالم، لم يقف الأمر عند هذا الحد، فترميم ما فعله زلزال اليابان تكلف -بحسب ما أعلنت الحكومة اليابانية وقتها- 25 تريليون ين، أي ما يوزاي 308 مليارات دولار آنذاك.
يقولون إن الحروب رغم دمويتها لكنها وسيلة لإعادة التوازن بين عدد سكان الكوكب وبين موارده، لكن لم يصف أحد ما تفعله الكوارث الطبيعية من زلازل وأعاصير وبراكين، التي لا تعيد توازن العالم بل تزيده سوءا، والأسوأ -كما يقول سيمور هيرش الكاتب الأمريكي- أن إعادة ترميم الخراب الذي تخلفه تلك الكوارث يتطلب تكلفة عالية قد لا تقدر عليها الدول المبتلاة، ولا يكون نصيب المواطنين سوى الفقر.
يدلل على حديث سيمور هيرش، ما حدث في الصين عام 2015 حين تعرض شرق البلاد للإعصار سودلور مخلفا أمطارا غزيرة أودت بحياة 12 قتيلا وهدمت مئات البيوت وغمرت آلاف الهكتارات من الأراضي، ومع استمرار الإعصار وصل حجم المتأثرين به إلى 1.16 مليون شخص وخسائر مالية قدرت بمليار دولار، بحسب وكالة الأنباء الصينية الرسمية حينها، ولم تكن البرازيل أفضل حالا في 2019 حين اختبرت لأول مرة ما يمكن أن يفعله الاحتباس الحراري، بعد أن زادت حرائق الغابات المطيرة في الأمازون بنسبة 77 في المائة عن المعتاد في موسم الجفاف، وهو ما دفع المعهد الوطني البرازيلي لبحوث الفضاء إلى أن ينذر العالم لأول مرة بكارثة التغيرات المناخية وضرورة التصدي لها، فالحرائق التي شهدها العام نفسه 2019 التي تكررت بشكل أسوأ لاحقا، ستنتج عنها خسائر ستبلغ 3.5 تريليون دولار على مدى 30 عاما.
ولأن الكوارث الطبيعية لا تعترف بدولة كبرى أو صغرى، كانت أمريكا على موعد مع إعصار إيدا الذي ضرب ولاية لويزيانا في 2021، وتسبب في انقطاع التيار الكهربائي عن المدينة التي يعيش فيها 400 ألف شخص، فيما أوضحت وكالة "رويترز" أن الخسائر التي نتجت عنه يمكن أن تصل إلى 95 مليار دولار، ورغم تلك الفاتورة المرتفعة ففي سبتمبر 2022 تسبب إعصار إيان في ضرب جنوب شرق أمريكا مخلفا وراءه 150 قتيلا وتشريد 40 ألف شخص، فيما وصلت تكلفة ترميمه إلى مائة مليار دولار.
هل الطبيعة تغيرت إلى الأسوأ، أم أن فاتورة الكوكب ما زالت تحتمل مزيدا، فعام 2022 كما رصدته معاهد الزلازل ومراكز التنبؤ بالكوارث الطبيعية كان أكثر تكلفة وتنوعا ما بين جفاف أوروبي وصيني وبرازيلي تكلف 32 مليار دولار، وفيضانات في أستراليا وصل مبلغ ترميم آثارها إلى سبعة مليارات دولار، أما عاصفة يونيس التي ضربت بلجيكا وألمانيا وأيرلندا فكان نصيبها أربعة مليارات دولار، وبالطبع هذه مجرد نماذج، فالفاتورة أكبر من أن تحصى في عدة سطور مهما احتوت من كلمات وأرقام.
ولذلك فإن تلك الفاتورة الباهظة لم تستطع الدول المنكوبة أن تدفعها كاملة، ولذلك أيضا كانت هناك دوما مشاركات ومساعدات إنسانية تعد ملمحا مشرفا للإنسانية، في عصر طغت فيه النزاعات والحروب. وتدلل الأرقام على أن السعودية كانت الصفحة الأكثر إشراقا في هذا الملف القاسي، فهي صاحبة النصيب الأكبر في مد يد العون إلى كل منكوب، بغض النظر عن أي روابط أو حتى اختلافات. ففي 2022 أوضح الدكتور عبدالله الربيعة المشرف العام على مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية، أن حجم المساعدات السعودية بلغ 95 مليار دولار، استفادت منه 160 دولة حول العالم، وفي عام 2022 فقط بلغ حجم المساعدات 26.7 مليار ريال سعودي ما يعادل 7.1 مليار دولار، وهو ما يوازي 1 في المائة من الدخل القومي للبلاد، أي تخطت الهدف الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة 1970، من أن المساعدات لا تتعدى نسبة 0.7 % من دخل الدولة.
تلك المساعدات تنوعت بين قوافل طبية وإطعام وإزالة ألغام في اليمن، مرورا بمستلزمات طبية وقت جائحة كورونا إلى تونس، وصولا إلى مساعدات إنسانية لأوكرانيا، وأخيرا جسر جوي لضحايا زلزال تركيا وسورية، وتوقيع عقود مشاريع لمصلحة المتضررين منهم بقيمة بلغت 183 مليون ريال سعودي ما يعادل 48.8 مليون دولار، لتكون الدولة العربية الأولى التي تفعل ذلك. وإذا كانت الكوارث الطبيعية وحشية ودائمة كما وصفها غسان شربل الكاتب اللبناني، فإن الكوارث التي تنتج عن التغيرات المناخية يمكن تقليل آثارها، وهو ما دفع المملكة إلى تقديم مبادرات مثل الشرق الأوسط الأخضر، واقتصاد الكربون الدائري أو الحياد الصفري، المقصود به تخفيص الانبعاثات الكربونية إلى أقصى درجة، وهي مبادرات تكلفها مليارات الدولارات. والسؤال هنا الآن: هل يتكاتف العالم مع الرياض حتى تنخفض الفاتورة، لينعم الناس بحياة هادئة في وقت يعاني فيه الآخرون من تحت الأنقاض؟!