عام على الحرب .. حسابات روسيا أم رهانات أمريكا؟
ينقضي الحول على الحرب الروسية - الأوكرانية، التي اشتعل فتيلها في 24 شباط (فبراير) 2022، ولم تتحقق توقعات الطرفين، فلا انتصار ولا هزيمة تعينت في أرض المعارك، بعد 365 يوما من القتال المستمر، ما دفع عددا من المراقبين والخبراء إلى الحديث عن أن الحسم سيكون بناء على نتائج الجولات، وليس بالضربة القاضية، استنادا إلى قاعدة "الكر والفر" السائدة في جبهات الصراع، محدثة تقلبات كبرى في موازين القوى في الميدان.
قراءة سريعة في التحركات الدبلوماسية المرافقة للذكرى السنوية الأولى للحرب، تفيد بأن الأوضاع تسير في منحى التصعيد من الجانبين، وترجح فرضية الدخول في مرحلة جديدة قوامها تكثيف المواجهات، من حيث الكم والكيف والنوع، ولا سميا بعد إدراك كل من موسكو وكييف بلوغهما نقطة اللاعودة في الصراع، ما خفف من حضور الخطاب الدبلوماسي، مقابل تأجيج لغة الحرب والتهديد على لسان المسؤولين من الطرفين.
صحيح أن النتائج المباشرة للحرب غير مرضية بالنسبة إلى الجانبين، لكن مفعول تأثيرها غير المباشر في غاية الأهمية، خاصة بالنسبة إلى الطرف الروسي الذي يرى أنه "يواجه خطرا وجوديا"، كما جاء على لسان الرئيس فلاديمير بوتين، حيث أكد في خطابه، يوم 21 شباط (فبراير)، أمام الجمعية الاتحادية الروسية "البرلمان بمجلسيه" أنه "من المستحيل هزيمة روسيا في أرض المعركة"، ما يعني إصرار موسكو على الاستمرار، والتصعيد في الربيع المقبل بعد زوال معوقات فصل الشتاء.
الحرب من منظور روسي
فشلت موسكو، هذه المرة، في تكرار سيناريو جزيرة القرم "2014"، وقبلها أوسيتيا الجنوبية في جورجيا "2008"، القائم أساسا على الحسم المبكر للأمور بأقل تكلفة ممكنة. فالظاهر أنها تدخل أو أدخلت -حسب بعض الروايات- في حرب استنزاف طويلة الأمد، فلا شيء محسوم حتى اللحظة، رغم انقضاء الأسابيع ومرور الشهور، التي كانت سقف توقعات المراقبين، قصد الحسم النهائي للمعارك.
لكن صناع القرار في الكرملين لا ينظرون إلى حصاد الحرب بكل هذه السوداوية، فهناك أكثر من نقطة ضوء، في خضم دواخن الحرب الكثيفة، تصلح للتسويق كإنجاز لشريحة عريضة من المواطنين داخل روسيا، وحتى خارجها ممن يعلنون تعاطفهم مع موسكو، في مختلف بقاع العالم ليس حبا فيها، بل ضدا في واشنطن وبقية دول المعسكر الغربي التي تحوم في فلكها.
سارعت الدول الغربية، منذ أيام الحرب الأولى، إلى استخدام سلاح العقوبات الاقتصادية لعزل الرئيس فلاديمير بوتين عن العالم، بيد أن هذه المساعي فشلت فشلا ذريعا، لدرجة أنها جاءت بمفعول عكسي، فبدل أن تكون العقوبات أداة لمحاصرة موسكو وتضييق الخناق عليها، أضحت مبررا للتمرد على جملة من القواعد في النظام الدولي، فأجريت التعاملات التجارية دون استخدام الدولار، وبيع النفط الروسي بأقل من أسعار السوق العالمية، ونشط التبادل التجاري مع دول وازنة، بعضها محسوب على المعسكر الغربي. وأخيرا، أعلنت الهند ارتفاعا قياسيا، تعدى 400 في المائة، في تجارتها مع روسيا.. وغيرها من الوقائع التي تمثل انتصارات للقيادة الروسية على "الأعداء".
وحققت روسيا نجاحا في أروقة الأمم المتحدة، فالأرقام تفيد بأن الولايات المتحدة تمكنت من حشد 141 دولة من أصل 193 للتصويت في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي لشجب إعلان الكرملين ضم أجزاء من أوكرانيا، لكنها فشلت في ضمان الحشد ذاته في مسألة العقوبات، فعدد الدول التي فرضت عقوبات على موسكو لا يتعدى 33 دولة، وهذا يمثل 17 في المائة فقط من الدول الأعضاء في الهيئة الأممية.
زيادة على ذلك، زار سيرجي لافروف وزير الخارجية الروسي، تسع دول إفريقية وشرق أوسطية خلال الشهرين الماضيين. وتعمل روسيا حاليا -حسبما صرح به ميخائيل بوجدانوف، نائب وزير الخارجية الروسي- على وضع اللمسات الأخيرة على الجوانب القانونية والبروتوكولية لافتتاح بعثات دبلوماسية في عدد من دول القارة الإفريقية، فوزارة الخارجية الروسية -وفقا للتعليمات الحكومية- "تعمل على فتح سفارات جديدة في عدد من الدول الإفريقية، لتوسيع الوجود الدبلوماسي الروسي في القارة".
الحرب من منظور غربي
يدرك جو بايدن جيدا محدودية نطاق وصدى "التحالف الدولي" ضد روسيا، فالعالم، بعد عام من الحرب، سائر نحو انقسام عالمي عميق، لعدم اقتناع كثيرين بسردية الزعماء الغربيين عن الواجب "الأخلاقي" لمواجهة روسيا، لخرقها مبادئ الديمقراطية والسيادة الوطنية وقواعد النظام العالمي، وأن رحى الحرب الدائرة هناك "معركة بين الحرية والدكتاتورية". ذلك لأن الولايات المتحدة، ببساطة، خرقت القواعد ذاتها غير ما مرة، وفي أكثر من رقعة جغرافية في العالم.
هذه الحقيقة، بمعية توارد معلومات استخباراتية عن التدفق واسع النطاق للأسلحة إلى المنطقة، ما يرجح فرضية حدوث تصعيد في مسار الحرب، مع وجود مؤشرات على استعداد موسكو لشن هجوم واسع النطاق، مع قرب انتهاء فصل الشتاء، دفعت بالرئيس الأمريكي إلى القيام بزيارة مفاجئة إلى الأراضي الأوكرانية، حيث ألقى كلمة في العاصمة كييف بغية حشد همم الأوكرانيين، لمنع حدوث أي تغيير في موازين الحرب على الأراضي الأوكرانية لمصلحة روسيا.
فتداعيات حدوث مفاجآت من هذا القبيل لا حصر لها، بدءا من تقويض الأمن الأوروبي، فحينها سيصبح أمن دول حلف الناتو محل تهديد مباشر من موسكو، علاوة على ترجيح هذا التغيير كفة روسيا على حساب الولايات المتحدة. كما يبعث ذلك برسالة اطمئنان إلى الصين، تدفعها إلى القيام بمغامرة مماثلة داخل تايوان، مع أفضلية الحسم المبكر بالنسبة إلى الصين، مقارنة بروسيا، بالنظر إلى القرب الجغرافي أولا، واتساع النفوذ في بحر الصين الجنوبي ثانيا.
خوفا من ذلك، سارع جو بايدن لتنفيذ زيارة أقرب إلى المغامرة، فهذه المرة الأولى التي يقوم فيها رئيس أمريكي بالدخول إلى منطقة حربية لا تضم جنودا أمريكيين، عكس زيارة رؤساء سابقين لجنود أمريكيين في مناطق حرب، باراك أوباما في أفغانستان وجورج بوش الابن في العراق. تبقى هذه الخطوة إضافة إلى ما جاء في كلمة الرئيس في كييف من قبيل تأكيده "التزام أمريكا الثابت بديمقراطية أوكرانيا ووحدة أراضيها.. مهما استغرق الأمر"، بمنزلة رسالة مباشرة من بايدن إلى الأوكرانيين، مضمونها أنكم جنود من أجل الديمقراطية.. من أجل الحرية.. من أجل أمريكا.
في هذا السياق، يمكن فهم قرار الدول الغربية الاتفاق على تزويد أوكرانيا بالدبابات، حيث أعلن وزراء دفاع ألمانيا وهولندا والدنمارك، مطلع الشهر الجاري، إرسال ما لا يقل عن مائة دبابة من طراز "ليوبارد 1- إيه 5"، إلى كييف بحلول منتصف آذار (مارس) المقبل، لصد الهجوم الروسي المحتمل، والعمل على استعادة الأراضي الأوكرانية الواقعة تحت السيطرة الروسية. فالقناعة راسخة لدى الغرب، بأن "بقية العالم تنظر إلى هذه الحرب على أنها حرب أوروبية، وليست حربا عالمية".
التصعيد قادم لا محالة في الأشهر المقبلة، وما قرار سيرجي شويجو وزير الدفاع الروسي تعيين فاليري جيراسيموف الرجل الثالث في الجيش الروسي، رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة للاتحاد الروسي، قائدا للعملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا سوى مؤشر على ذلك. علاوة على إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مطلع الأسبوع الماضي، انحساب بلاده من معاهدة "نيو ستارت" المشتركة مع الولايات المتحدة للحد من عدد الرؤوس الحربية النووية الاستراتيجية التي يمكن نشرها.
ما سبق يعدم أي فرصة للمفاوضات أو استعداد للحوار بين الطرفين، في المقبل من الأيام، فكلا الجانبين عازم ومصمم على حسم الحرب بالقوة والسلاح، ولا سيما أن الحرب انقلبت من صراع على الأمن القومي "روسيا/ الناتو" إلى مسألة وجودية، فخسارة أي طرف "روسيا/ أمريكا" تعني تهديدا رمزيا لوجوده كقوة دولية عظمى.