"النجوم الثلاثة".. عملاق يصنع المستقبل بعدما كان يجفف السمك
كانت كوريا الجنوبية، في ستينيات القرن الماضي، في زمرة الدول الفقيرة، فترتيبها عالميا، في 1961، كان بعد دول مثل: غانا والعراق وبوليفيا.. على الرغم من كونها دولة عريقة، فقد وحدها للمرة الأولى، عام 668، الملك مونمو العظيم (626-681). تعرضت في الحقبة الحديثة، وتحديدا في 1910 إلى غزو من الإمبراطورية اليابانية، دام 35 عاما، عمل على محو كل آثار الثقافة الأصلية في البلاد.
بعد الاستقلال، اندلعت حرب أهلية في شبه الجزيرة الكورية، بين 1950-1953، كانت من أولى نتائج الحرب الباردة بين القطبين الرأسمالي والشيوعي. وضعت أوزاهار بنتيجة لا غالب ولا مغلوب، بعد توقيع اتفاق وقع إطلاق النار، على خط العرض 38 الفاصل بين البلدين. حرب بخسائر ثقيلة (150 ألف قتيل و250 ألف جريج) فاقمت الوضع المأزوم في البلاد أصلا، جراء ثلاثة عقود ونصف من الاستعمار الياباني.
حولت كوريا أحداث هذا التاريخ المرير إلى وقود محفز بدل أن يكون عائقا وحجر عثرة، يمنعها من تحقيق الإقلاع الاقتصادي، فالدولة اليوم حاضرة ضمن قائمة العشر دول الأكثر تصديرا في العالم، باحتلالها المركز السابع عالميا، وفق إحصائيات 2021. كما أنها حصدت الرتبة 13 عالميا، العام الماضي، في مؤشر إجمالي الناتج المحلي.
يعود فضل نجاح النهضة الاقتصادية الشاملة في البلاد إلى قرار الرئيس بارك جونج هي (1962-1979) اتباع سياسة صناعية تصديرية، جعلته، حسب تصنيف مجلة "تايم" الأمريكية، واحدا من أفضل عشرة آسيويين في القرن الـ20. قصة نجاح ملهمة، ما كانت لتكتمل فصولها لولا مساهمة شريك قوي في تحقيق هذه القفزة التنموية الضخم؛ إنه "التشايبول" chaebol، ويقصد به تكتل الشركات الكورية القوية المملوكة من قبل عائلات، والمصطلح يعني حرفيا "عشيرة الثروة".
صحيح أن الرئيس بارك وفر حماية استثنائية لهذه الشركات، التي يعدها أجنحة الاقتصاد الكوري، فمنح لها احتكارات داخل البلد، وصد عنها المنافسة الأجنبية، وأوجد الأسواق لسلعهم فقط. وبلغ به الأمر أن أصدر قانونا، في 1975، عندما هدد ركود عمليات الشحن العالمي بإفلاس شركة هيونداي - التي أصبحت بناء على إصرار الرئيس بارك، شركة بناء سفن رئيسة- يجبر جميع شركات تكرير النفط المحلية على استراد النفط الخام باستخدام ناقلات شحن كورية، وقد عملت هذه الخطوة بمفردها على استعادة الشركة لقوتها.
في النهضة الاقتصادية الكورية، وبعيدا عن تدخل الحكومة عند الضرورة فقط، تمت تجربة فريدة لشركة أضحت اليوم علامة ترويجية دالة على كوريا الجنوبية في العالم بأسره. شركة أسست في 1938، في ظل الاستعمار الياباني، على يدي الشاب لي بيونج تشول (28 عاما) ضدا على ازدراء المستعمر لأبناء البلد "... قالوا (اليابانيين) إن الكوريين لا يعرفون التضامن، وبالتالي لا تتوقع منهم إدارة حتى شركة صغيرة. كان هذا دافعا وراء قراري إنشاء شركة.. كانت لدي رغبة جامحة في إثبات خطأ هذا التوقع".
انطلقت شركة "النجوم الثلاثة" التي تعني باللغة الكورية "سامسونج"، وفي الاسم إيحاء على المبادئ الأساسية للشركة، "كبيرة وقوية وأبدية" بيد عاملة لا تتعدى 40 عاملا. واختارت التجارة في الأسماك المجففة التي تتولى تصديرها إلى الصين، بالموازاة مع التجارة المحلية في السلع الاستهلاكية الأساسية (الأرز والسكر والمعكرونة...). رافق انتقال الشركة إلى العاصمة سيول بداية الخمسينيات توسع في الأنشطة، بدخولها قطاعات جديدة مثل: المنسوجات والأسمدة والأسمنت والتأمين وتكرير البترول...
اختارت المجموعة الكورية غمار طريق جديد، مطلع السبعينيات، بدخول عالم التقنية، مواكبة لسياسة وطنية شاملة تهدف إلى "محو الأمية الإلكترونية"، فصنعت أول منتج تقني كوري، تمثل في جهاز تلفاز دون ألوان، بمقاس 12 بوصة، بالتعاون مع خبراء فنيين لشركة يابانية. سرعان ما تحولت الشركة إلى لاعب أساسي في المجال الإلكتروني، بعد النجاح اللافت في تصدير منتجاتها نحو آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية، فضلا عن تمكنها من افتتاح مقر في الولايات المتحدة.
بداية الثمانينيات، مددت الشركة نطاق اشتغالها في عالم الإلكترونيات، فطرحت في 1982 في السوق الكورية أول حاسوب آلي شخصي (أس بي سي 1000)، وعملت على تطوير وتحسين باقة من المنتجات الإلكترونية الأخرى من هواتف نقالة وأجهزة كهربائية منزلية (ثلاجات، غسالة أطباق، مراوح...) حتى باتت منتجات الشركة من أكثر العلامة التجارية انتشارا في العالم، ولا سميا في الدول النامية.
بعد وفاة المؤسس لي بيونج تشول، في 1987، انقسمت المجموعة إلى خمس شركات تجارية، وكانت شركة الإلكترونيات من نصيب الابن لي كن هي، الذي أدرك أن النمو الكبير وصناعة الشركة لاسمها في دول العالم الثالث، لا يعني مطلقا بلوغ العالمية. فقرر في 1990 تغيير استراتيجية الشركة، بواقعة شهيرة تمثل في الحضور بمعية أعضاء مجلس الإدارة إلى مصنع الشركة الأساسي، حاملين مطارق في أيديهم استخدموها في تكسير ما وجدوه بين يديهم من أجهزة، أمام ذهول العاملين الذي تولوا لاحقا تدمير بقية المخزون، بعد سماعهم عبارة المدير التنفيذي "غيروا كل شيء ما عدا زوجاتكم وأبنائكم. نحن بصدد مرحلة تجديد سامسونج".
خسرت الشركة في ذاك اليوم 50 مليون دولار، لكنها كسبت نظير ذلك التحول إلى شركة عالمية، قادرة على المنافسة بفضل منتجاتها ذات الجودة العالية، وعلى رأسها أجهزة التلفاز الرقمية التي ظهرت 1998 ثم الهواتف النقالة... واستطاعت الشركة تطوير تقنيات في صناعة أجهزة التلفاز، جعلتها تحتل المركز الأول عالميا بوصفها أكبر مصنع في 2008. تكرر السيناريو نفسه في مجال الهواتف بطرح هاتف ذكي، أضحى أكثر الهواتف مبيعا في العالم خلال العقد الثاني من القرن الحالي، حتى بات اليوم من بين كل خمسة أشخاص يملكون هاتفا ذكيا حول العالم، هناك شخص واحد يحمل هاتفا من إنتاج شركة النجوم الثلاثة.
باختصار، تلكم قصة إمبراطورية سامسونج التي استطاعت المزج بين النباهة في اقتناص الفرص، والمرونة في التعاطي مع ما يفرضه العصر من تطور وتحديث، مع منسوب عال من الحس الوطني، بدخول الشركة غمار قطاعات جديدة، بأموال واستثمارات طائلة، دعما لسياسات حكومية تحتمل النجاح والفشل... لتحقق نبوءة المؤسس حول النجوم الثلاثة (الكبر والقوة والأبدية)، وتفند ادعاءات اليابانيين الذين صاروا زبائن ومستهلكين لمنتجاتها، وتسهم في بناء اقتصاد كوريا الجنوبية بعائدات توازي اقتصادات دول كاملة.