الأزمة المناخية .. مبادرات ذاتية جوهرها فلسفة التكيف

الأزمة المناخية .. مبادرات ذاتية جوهرها فلسفة التكيف

بات من اليقينيات الرائجة في الأوساط العلمية أن قضية التغير المناخي التي صنعها الإنسان بيديه، أضحت تهدد مستقبل الوجود البشري على كوكب الأرض. فالجهود الدولية المبذولة من جانب دول استشعرت حجم المسؤولية والمخاطر، وإن نجحت في بلوغ الأهداف الداخلية التي وضعتها من باب المساهمة في التصدي للمشكلة المناخية، يبقى المؤكد، بحسب خبراء البيئة، أن الأمر ذلك لن يستطيع وقف تغييرات نهائية في النظام البيئي العالمي.
تبقى المساعي القائمة حاليا، من قبل المنظم الدولي، فقط من أجل مواجهة الآثار الفورية لمشكلة غازات الاحتباس الحراري، الناجم عن أسلوب الحياة الصناعية، أي الحيلولة دون ارتفاع حرارة الأرض لأكثر من درجتين مئويتين حتى لا تقع الكارثة. فهذا الخيار وحده ليس كافيا، لمنع أسوأ السيناريوهات لأزمة المناخ. فضلا عن ارتباطه الوثيق بالتداعيات المباشرة للمسألة، دون كبير اهتمام ولا عناية بما قد يتراخى عنها من انعكاسات غير مباشرة.
أفاد تقرير لمنظمة الصحة العالمية، العام الماضي، أن العالم بات مجبرا على التعاطي مع آثار التغييرات المناخية وفق مستويات مختلفة، فإلى جانب التداعيات الفورية (الموت، الأمراض...) تمت تبعات أخرى غير مباشرة على صحة الإنسان ناجمة عن المعضلة المناخية، مثل: نقص التغذية بسبب فشل المحاصيل الزراعية، وانعدام المياه الصالحة للشرب، وانخفاض حجم العائد الزراعي من المحصول، وتراجع مخزون الأسماك في الأنهار والبحار.. ينعكس ذلك بدوره على مستوى دخل الأفراد، ما يحدث اضطرابات عقلية ونفسية، أو يدفع نحو النزوح والهجرة.
ظاهرة في تزايد مطرد، فالطقس المتطرف، وفق منظمة أوكسفام، أحدث تغييرات كبيرة في الخريطة السكانية، إذ تسبب في موجات نزوح بمعدل 20 مليون شخص سنويا، كما ورد في أحدث تقرير للمنظمة، "كانت الكوارث التي يحفزها المناخ هي المحرك الأول للنزوح الداخلي على العقد الماضي، ما أجبر ما يقدر بنحو 20 مليون شخص سنويا على ترك منازلهم.. 80 في المائة منهم يعيشون في آسيا، موطن أكثر من ثلث أفقر سكان العالم".
على فرض نجاح الدول في تحقيق ما سطرته من أهداف بشأن التغير المناخي، فذلك لن يغير شيئا فيما يجري حاليا من انعكاسات غير مباشرة في حياة الأفراد، وعلى المعيش اليومي لهم، لأن الأمر أضحى نهائيا ولا رجعة فيه. فكيف السبيل مثلا إلى استعادة كائنات بحرية انقرضت بفعل التغير المناخي؟ وأي الحلول يمكن اعتمادها لاستعادة الأراضي الزراعية الخصبة المفقودة من جراء التقدم العمراني السريع؟ وكم يلزم من الجهد والتكاليف لتجاوز ما خلفته ظاهرة التصحر في عديد من المناطق في العالم؟ لكل ذلك، بات التفكير في طرق أخرى لمواجهة التغير المناخي، تضاف إلى خيار التقليص من الانبعاثات، ما دفع بهيئات دولية معنية بالمناخ إلى طرح فكرة التكيف، فالرهان على السعي نحو تثبيت مستوى درجات الحرارة هدف عالمي. عكس التكيف الذي يرتبط أكثر بالآثار المحلية والإقليمية للمشكلة المناخية، ويتأسس على فلسفة أن البشر من صنع الكارثة، ما يعني أن البشر هم الوحيدون القادرون على إنقاذ أنفسهم منها.
شهدت إفريقيا مبكرا محاولة لتجسيد فكرة التكيف، بحلم قديم راود الأفارقة، مع الرئيس البوركينابي توماس سانكارا، في ثمانينيات القرن الماضي، تمثل في "السور الأخضر العظيم"، الذي صار حقيقة على أرض الواقع بعدما حظي بموافقة ودعم من الاتحاد الإفريقي. وتم الشروع في التنفيذ الفعلي، بدعم من الأمم المتحدة في إطار اتفاقية محاربة التصحر، في 2007، بعد توقيع المبادرة من طرف 11 دولة، في منطقة الساحل من السنغال غربا إلى جيبوتي شرقا.
يسعى المشروع إلى إقامة جدار من الأشجار بطول ثمانية آلاف كيلومتر، يمتد على عرض القارة السمراء، للتصدي لظاهرة التصحر ووقف زحف الصحراء الكبرى جنوبا. وتضع المبادرة من ضمن أهدافها، في أفق 2030، إعادة استصلاح 100 مليون هكتار من الأراضي المتدهورة في منطقة الساحل. هدف يبقى بعيد المنال، في ضوء النتائج المنجزة على أرض الواقع. فنسبة الإنجاز، بحسب تقرير رسمي للمؤسسة الراعية للمبادرة، لا تتعدى 18 في المائة، بعد غرس نحو 20 مليون شجرة في تلك المناطق.
معطيات تفيد صعوبة بلوغ الأهداف المسطر موعدها بنهاية العقد الحالي، ما يرجح اتفاق الدول على وضع سقف زمني جديد لانتهاء المبادرة، يأخذ في الحسبان تأخر الإنجاز على أرض الواقع. خاصة، مع تحول المبادرة إلى فسيفساء مكونة من عدة مشاريع تكيف حسب الأقاليم والدول، مدارها الرئيس هو الحفاظ على الأراضي واستغلالها بشكل مستدام، والإنتاج الزراعي مع تدبير جيد للموارد المائية. كل ذلك يؤكد ما تم ذكره سلفا، من صعوبة إعادة ما تم تدميره من جراء تداعيات المعضلة المناخية.
على هذا الأساس، يصبح الرهان، وبشكل كلي، على خيار تخفيض الانبعاثات، المحفوف بالمخاطر بشأن صعوبة إجبار الدول على الالتزام والتنفيذ، لكسب التحدي العالمي دون أي اهتمام بخيار التكييف الذي يتماهى مع السياقات والمناطق والأولويات، فضلا عن إتاحته إمكانات كبرى بشأن المراقبة والتتبع وتقييم الأداء، إضافة إلى مزاوجته في الأهداف بين التداعيات المباشرة وغير المباشرة للتغيرات المناخية.
خيار استشعرت دول فاعليته مبكرا، ومن موقع إحساسها بالمسؤولية عن كوكب الأرض، فقامت بمبادرات ذاتية جوهرها فلسفة التكيف، على غرار "مبادرة الشرق الأوسط الأخضر" التي أطلقتها السعودية، ورفعت التحدي عاليا بإنجاز أكبر برنامج تشجير في العالم، قوامه زراعة 50 مليار شجرة، ما سيسهم في تغيير كبير في مناحٍ كثيرة (المناخ، الغطاء النباتي، التنوع البيولوجي...) في منطقة الخليج العربي برمتها.

الأكثر قراءة