ضحايا المصارف .. إفلاس لا يفرق بين المودع الكبير والصغير
لم تكن جزيرة جيكل وقتها قد تحولت إلى وجهة سياحية لولاية جورجيا، وحول منضدة تحيط بها السلاحف ضخمة الرأس التي تشتهر بها الجزيرة، التف أصحاب أشهر البنوك الأمريكية حول جي بي مورجان، ذئب وول ستريت والاقتصادي الفذ المعروف، ليضع حدا للكارثة المتكررة، التي ملخصها، سريان شائعة بإفلاس بنك ما، فيذهب كل المودعين لطلب أموالهم من هذا البنك في يوم واحد، فيفلس البنك فعليا، في تطبيق لمقولة "نبوءة تحقق ذاتها"، هذا ما حدث في أعوام 1893 و1896، و1907 العام الذي انعقد فيه هذا الاجتماع بعد إفلاس عشرة بنوك أمريكية في يوم واحد إثر واقعة عرفت بـ"الانهيار المصرفي الكبير".
توصل جي بي مورجان بعد خمسة أعوام من هذا الاجتماع، إلى تأسيس بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، الذي تضع فيه البنوك ما يعادل أموال المودعين حتى تظل محفوظة تحت أي ظرف، ورغم أن هذا الإجراء معمول به في كل دول العالم حتى الآن، وبالفعل هو ضمانة أساسية لكل مودع، لكن عبر عقود ماضية ثبت أن الإنسان حين يفقد ثروته لا تجدي معه أي وسيلة مطمئنة.
يدلل على ذلك ما حدث في 1984 حين أعلن بنك كونتيننتال إلينوي آند تراست إفلاسه، وكان وقتها أكبر بنك تجاري، قدرت أصوله قبل الإفلاس بثلاثة أعوام بنحو 40 مليار دولار بحسب صحيفة "واشنطن بوست"، لكن منح القروض دون ضوابط والفساد الذي أدى إلى تسهيلات بالمليارات للمقرضين، أديا في النهاية إلى أن يعلن البنك إفلاسه.
وإن كان المودعين الكبار كانوا الأقل تضررا لأنه قبل إعلان الإفلاس بأسابيع قليلة سحبوا معظم أموالهم، في خطوة عدها البعض تعجيلا بالإفلاس، إلا أن صغار المودعين الذين لم يكن لديهم معلومات أو مصادر تخبرهم بما يجري داخل البنك، كانوا هم الضحايا الأكثر تضررا.
"جميعهم طرقوا أبواب الصحف للنجدة"، هكذا وصف أحد الأفلام الوثائقية عن هذا الإفلاس الذي وصف بأكبر فشل مصرفي في تاريخ الولايات المتحدة، وبسبب اللجوء إلى الصحافة سرعان ما تشكل رأي عام قوي يطالب برد أموال المودعين وعدم الاكتراث بترديد نظرية أن الأموال محفوظة في البنك الفيدرالي، وهو ما دفع الحكومة الأميريكية إلى التدخل السريع بأموال بلغت 13 مليار دولار استطاعت بها احتواء الأزمة قبل أن يدخل مالكون جدد إلى البنك ليخرجوه من عثرته.
أما المودعون اليابانيون، ورغم المعروف عن مسالمة الشعب الياباني، لكنهم حين فقدوا أموالهم وصل الحال إلى التهديد بالقتل، ففي 1998 كانت فقاعة أسعار الأصول العقارية تتوغل في اليابان للدرجة التي أدت إلى انهيار بنك الائتمان طويل الأجل، أحد أكبر ثلاث بنوك في البلاد، وتاسع أكبر شركة في العالم من حيث الأصول وقتها، وبسبب إغراق البنك في الديون التي وصلت إلى 19 مليار دولار وقتها، اضطر إلى إشهار إفلاسه.
وتشير التقارير الصحافية التي وثقت هذا الحدث، إلى أن بعض المودعين اليابانيين أرسلوا تهديدات بالقتل لقيادات البنك إذا لم يستردوا أموالهم فورا ـ ونتيجة لذلك تدخلت الحكومة اليابانية سريعا وأممت البنك في العام نفسه ثم أعادت هيكلته تحت مسمى بنك تجاري جديد هو "شينسي بانك".
الثانية إلا ربع من ظهر الأربعاء 15 أيلول (سبتمبر) 2008، توقيت يحفظه جيدا أصحاب المال والاقتصاديون الأمريكيون، ففي تلك اللحظة كان بنك "ليمان براذرز" يعلن إفلاسه بشكل مفاجئ تاركا أصول بقيمة 691 مليار دولار و25 ألف موظف في مهب الريح، هذا الإفلاس الأكبر في التاريخ الأمريكي كان بداية الأزمة المالية العالمية في 2008 التي سببها الرئيس الرهن العقاري.
وبناء على ما حدث لهذا البنك وبنوك أخرى، لم يجد الأمريكيون وسيلة سوى اللجوء إلى القضاء لاسترداد أموالهم، فضلا عمن أصيب بنوبات قلبية أدت إلى وفاته كما أشارت "نيويورك تايمز" في تقريرها وقتها عن تأثير ما حدث، لكن من تمالك نفسه اتخذ الطرق القانونية ظنا منه أن الأمر لن يستغرق الكثير، وبالفعل أسس الضحايا عدة مجموعات لتوكيل محامين ودشنوا من أجل ذلك موقعا إلكترونيا حينها، وتشير التقارير إلى أن الأحكام القضائية كانت تصدر حتى 2015 وهو ما يعني أن هناك من انتظر سبعة أعوام كاملة لاسترداد حقوقه.
ولم تكن الأمور أفضل في لبنان الذي يعاني أزمة اقتصادية طاحنة منذ 2019، وأدى ذلك إلى انهيار الخدمات الأساسية فيه وشح الدولار، ورغم أن البنوك اللبنانية لم تعلن إفلاسها لكنها عجزت في أوقات كثيرة عن رد أموال المودعين، وهذا ما دفع الفتاة اللبنانية سالي حافظ، إلى اقتحام أحد المصارف في أيلول (سبتمبر) الماضي، وتهديد الموظفين بمسدس لعبة للحصول على مستحقاتها التي حصلت عليها وسافرت، حيث استغلت هذه الحيلة لعلاج شقيقتها المريضة بالسرطان، وفتحت تلك الواقعة الباب أمام مودعين كثر اقتحموا المصارف اللبنانية للحصول على حقوقهم للدرجة التي أدت إلى إغلاق البنوك نفسها لعدة أيام وتشديد الرقابة عليها.
وإذا كان أصحاب الأموال في البنك الفرنسي - التونسي كانوا أكثر حظا لأن الغلق تم من خلال تحكيم دولي سبقه تعهد برد أرصدة المودعين قبل تلك الخطوة، فإن عملاء بنك سيلكون فالي الأمريكي مازالوا يتخبطون، فالبنك العملاق الذي أسس في 1983 وتخصص في إقراض الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا تعرض إلى أزمة بسبب قيام البنك الفيدرالي الأمريكي برفع الفائدة في 2022، ما اضطر "فالي" إلى بيع سندات بخسارة وصلت إلى نحو ملياري دولار، وبعد انتشار هذا الخبر أقدم المودعون على سحب أرصدة بلغت 42 مليار دولار في يوم واحد، وهو ما يشكل ربع قيمة ودائع البنك ما أدى إلى انهياره.
ورغم أن الحكومة الأمريكية تدخلت سريعا بوعد مودعي سيلكيون فالي برد أي ودائع بحد تأميني بالغ 250 ألف دولار، إضافة إلى أن هناك صندوقا لتأمين الودائع وقروضا طارئة، لكن ذلك لم يمنع من حالة ذعر انتابتهم كما انتابت مؤسسات مالية أخرى، والسؤال الآن، إذا كان أصحاب الأموال لدى سيلكون فالي عرضوا بعد الانهيار أسهمهم مقابل 40 في المائة من قيمتها الحقيقية للنجاة، فماذا سيفعل عملاء آخرون أوشكت بنوكهم على الإفلاس مثل كريدي سويس الذي وقف على حافة الهاوية قبل أن يتعرض إلى خطة إنقاذ بقيمة 54 مليار دولار حتى لا يلقى المصير نفسه؟