«المعادن الحرجة» تدفع العالم نحو صدام جيوسياسي

«المعادن الحرجة» تدفع العالم نحو صدام جيوسياسي
«المعادن الحرجة» تدفع العالم نحو صدام جيوسياسي

يتجه العالم نحو صراع جديد بين القوى الكبرى، لن يقل ضراوة عن الحروب من أجل السيطرة عن الموارد الطاقية التقليدية، فالتحديات التي تفرضها الأزمة المناخية من ناحية، ومتطلبات الثورة الرقمية بتقنياتها المتقدمة في مختلف مناحي الحياة المعاصرة من ناحية أخرى، تدفعان العالم نحو صدام جيوسياسي، بين دول تسعى إلى امتلاك الموارد الأساسية لكسب هذه الرهانات. بذلك تكون معالم تشكيل خريطة سياسية جديدة مسألة وقت فقط، في ظل توالي المؤشرات الدالة على صراع محتدم حول الموارد الجديدة.
إذا كان الفحم أساس النشاط الاقتصادي في القرن الـ19، والنفط عماد الاقتصاد في القرن الـ20، فإن قائمة من المعادن "المعادن الحرجة"، تشكل قطب الرحى بالنسبة إلى الاقتصاد الرقمي والاقتصاد الأخضر، لمركزية هذه المعادن في تشييد أسس هذه الاقتصادات. فهي ما يقود قاطرة التوجه العالمي نحو الصناعات عالية الدقة للانتقال من الطاقة الملوثة نحو الطاقة النظيفة، وتحضر بقوة في السباق المحتدم من أجل السيطرة والاستحواذ على تكنولوجيا المستقبل، فضلا عن كونها النواة المحورية في صناعة الجيل الجديد من الأسلحة الحديثة والمتطورة.
لكل ذلك، ترجح التوقعات أن تصبح "معادن المستقبل"، كما يصفها خبراء، على رأس أسباب اندلاع الحروب في القرن الحالي، فلا بديل عنها لضمان استمرارية الحياة فوق كوكب الأرض. فمن بطاريات السيارات الكهربائية إلى الألواح الشمسية، مرورا بأشباه الموصلات، المكون الأساسي في الأنظمة الدفاعية والأسلحة الإلكترونية، وليس انتهاء بإنتاج أجيال جديدة من الهواتف الذكية. يبقى حضور هذه المعادن أساسيا، لا باعتبارها مجرد عنصر من المدخلات الصناعية، إنما باعتبارها ثابتا من ثوابت الأمن القومي للدول.
الانكشاف الاستراتيجي الأمريكي "المعدن الحرج"، وفق تعريف وزارة الداخلية الأمريكية، هو تلك المادة الحيوية للرفاهية الاقتصادية للاقتصادات الرئيسة والصاعدة في العالم، التي قد يكون توريدها معرضا للخطر، بسبب الندرة الجيولوجية أو القضايا الجيوسياسية أو السياسة التجارية أو عوامل أخرى. لذلك، وضعت الوزارة قبل خمسة أعوام قائمة احتوت على 35 معدنا، عدتها مهمة للأمن القومي الأمريكي، قبل أن تعززها بـ15 معدنا آخر، شباط (فبراير) الماضي، بناء على توصيات تقرير مجموعة "ماكنزي للاستشارات الاستراتيجية" الذي رصد 40 معدنا في قائمة المعادن اللازمة لحماية الأمن القومي الأمريكي.
على إثر تلك النتائج، أصدر الرئيس الأمريكي جو بايدن مرسوما يدعو فيه إلى مراجعة دقيقة لشبكات الإمداد بهذه المواد الأساسية. من جهته، أقر مجلس الشيوخ نصا يركز على أهمية استخراج المعادن الحرجة، في خطوة عدت تفاعلا مع تقارير متلاحقة داخل الولايات المتحدة، تحذر من خطوة التعاطي الرخو مع الموضوع. فالمقارنة التي وردت في تقرير تفيد بأن الولايات المتحدة، عام 1954 كانت تعتمد على الخارج لسد احتياجاتها من ثمانية معادن فقط، أما اليوم فقد ارتفع عدد المفقود منها محليا، بشكل شبه كامل، إلى 20 صنفا، وهو ما يضع البلاد في وضع غير مستقر، ويهدد تأمين مستقبل أكثر استدامة.
معطيات تضع البلاد، بحسب خبراء أمريكيين، موضع الانكشاف الاستراتيجي أمام دول معادية، والقصد هنا الصين تحديدا، لكونها المزود الأساسي لواشنطن والمعسكر الغربي بشكل عام بهذه المعادن الحرجة. حقيقة اليوم ليست بالأمر الجديد، فأول المؤشرات بشأن "المعادن الحرجة" يعود إلى أكثر من عقد من الزمن، حين قررت الحرب إيقاف الصين صادراتها من هذه المعادن إثر نزاع مع اليابان. قبل أن يتجدد، وبقوة أكبر، خلال ولاية الرئيس الأسبق دونالد ترمب، في عز فصول الحرب التجارية بين واشنطن وبكين، حين هددت هذه الأخيرة باستخدام هذه المعادن سلاحا ضد الأولى.
أدرك الأمريكيون أخيرا أنهم في مأزق صعب، فالأرقام تفيد بأنهم استقدموا من الصين 80 في المائة من هذه المعادن عام 2019. وبلغت النسبة 100 في المائة، العام الماضي، بشأن معدن الجرافيت المكون الأساسي لإنتاج بطاريات السيارات الكهربائية. أما دول الاتحاد الأوروبي، الحليف التقليدي لواشنطن، فقد استوردت كل شيء تقريبا، إذ وصلت النسبة إلى 98 في المائة. ما يجعل جبهات التنافس، من تكنولوجيا ودفاع وطاقة وغيرها، بين القوى الكبرى لريادة العالم تحت رحمة بكين. فالتوقعات تشير إلى تزايد الطلب على هذه المعادن الحيوية بنسبة 400 في المائة، برسم عام 2040، وبحلول منتصف القرن يصير لزاما إنتاج هذه المعادن بكمية أكثر مما أنتجته البشرية منذ فجر التاريخ.
تقلل قراءات من أهمية المعادن النادرة، اعتبارا لتواضع أرقامها قياسا ببقية الأسواق، فحجمها لم يتجاوز، عام 2019، ما قدره 1,15 مليار دولار في كل أنحاء العالم. قراءة يشوبها خلل كبير، لاستنادها فقط إلى الاستثمارات المباشرة، فيما قيمة المعادن الحقيقية في حجم وطبيعة السلع التي لا يمكن أن تصنع من دونها، فهي في مجال الطاقة مثلا في قلب الجهود المبذولة للتخلص من الكربون. وفي عالم التكنولوجيا يحتوي هاتف آيفون على ثمانية أنواع من تلك المعادن.
الاستحواذ الصيني الناعم، تثبت الأرقام بسط الصين سيطرتها على معادن المستقبل، لا بفعل هبات الموارد الطبيعية، بقدر ما يعزى الأمر إلى سياسة حكومية حولت المسألة إلى أولوية استراتيجية، تمثلت في السعي وراء احتياطيات هذه المعادن في عدد قليل من الدول، على غرار الكونغو، صاحبة 60 في المائة من إنتاج الكوبالت العالمي، وغينيا ذات نسبة 1/4 من احتياطي العالم من البوكسيت، المادة الخام في صنع الألمنيوم، إما بغرض امتلاك أصولها المعدنية في هذه الدول أو فقط إدماجها في السياسة الصناعية بعد تحولها إلى أكبر معمل تكرير في العالم.
وشكلت مبادرة الحزام والطريق آخر حلقات الصين في مسلسل الهيمنة على هذه المعادن المنتشرة في العالم، فمعدن الليثيوم الأساس في تكنولوجيا البطاريات والتخزين، ارتفع الإنتاج عالميا من 32 ألف طن عام 2015 إلى 95 ألفا عام 2018، منتشر في مثلث الليثيوم في أمريكا اللاتينية "الشيلي وبوليفيا والأرجنتين"، الذي ينخرط ضلعاه "الشيلي وبوليفيا" بقوة في المبادرة الصينية. في وقت تواجه فيه واشنطن اتهامات بتدبير انقلابات ضد الرئيس السابق إيفو مواليس، بعد عقده شراكات مع كل من روسيا والصين، ما جعل الإعلام هناك يتحدث عن "انقلاب الليثيوم".
هكذا باتت الصين المتحكم الأول في سلاسل توريد أغلب المعادن الحرجة في العالم، فلا مفر لأي دولة ترغب في حصة أو نصيب من هذه المعادن، من التوجه صوب بكين لنيل مطالبها. فنسب تكريرها تكاد تكون متقاربة، حيث تستحوذ على نسبة 66 في المائة من معدن الألمنيوم، وأكثر من 80 في المائة من معدن الليثيوم، و66 في المائة في تكرير الكوبالت، ونحو 80 في المائة من إنتاج وتكرير الجرافيت. فضلا عن احتكار كلي لمعادن مثل معدن السيزيوم، الموجود في ثلاثة مناجم فقط في العالم، كلها تقع تحت سيطرة بكين.
تعمل الصين بتؤدة وهدوء على تشكيل نظام عالمي بديل عن القائم حاليا، معتمدة دبلوماسية ناعمة قوامها أدوات أخرى غير العنف وقوة السلاح، من قبيل التعاون والشراكة والاستثمار في البنيات التحية. وما خطة الاستحواذ على المعادن الحرجة في العالم سوى مثال حي على ذلك. فلأول مرة، منذ زمن الثورة الصناعية، لم يعد الابتكار والإنتاج الصناعيان محصورين داخل دائرة اقتصادات منظمة التعاون الاقتصادي، خاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان.
عاجلا غير آجل سيجد العالم بأسره، بما في ذلك المعسكر الغربي، نفسه في موضع التبعية للصين بخصوص هذه المعادن، فالتقديرات تشير إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية بالكاد يمكنها بنهاية عام 2025 أن تشرع أول شركة أمريكية في عملية تكرير لعدد محدود من المعادن، ما يجعل كفة الصين مرجحة في المقبل من الأعوام وربما حتى العقود.
بذلك يصبح كسب ثلاث جبهات للصراع الجيوسياسي، معركة الانتقال نحو الطاقة النظيفة والتفوق في المجالين التكنولوجي والعسكري ثم الصراع في الصناعات الفضائية، حكرا على ما تجود به معالم الصين من معادن، وهذا في حد ذاته مفارقة غريبة في زمن اشتداد التنافس والصدام ما بين التنين الصيني والنسر الأمريكي.

الأكثر قراءة