«الجيش الألماني» .. إعادة البناء تصطدم بالتخوف الغربي
رفع البرلمان الألماني مخصصات الإنفاق الدفاعي لأكثر من 2 في المائة، من الناتج المحلي الإجمالي بشكل دائم، بموافقة من الموالاة والمعارضة، نتيجة لعدم قدرة الجيش الألماني على الدفاع عن بلاده في حال وقعت مواجهة حقيقية مع روسيا، التي تعيش ضغطا سياسيا أوروبيا دوليا مدعوما من برلين في ظل الحرب الروسية - الأوكرانية، إلا أن تخوفا غربيا من عودة جيش ألمانيا النازية مرة أخرى، الذي كلما علا شأنه وارتفع، قامت الحروب العالمية.
سبق أن أعلنت الحكومة الألمانية العام الفائت الاتفاق بين الحكومة والمعارضة، لرفع مخصصات النفقات العسكرية إلى مائة مليار يورو لتحديث القدرات القتالية وتكنولوجيا التصنيع العسكري، لتصبح ألمانيا بتلك المخصصات من أعلى الدول إنفاقا على التسلح في العالم، وهذا أمر غير مسبوق في ألمانيا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
وتعمل الحكومة الألمانية على تطوير قدرات مقاتليها، من خلال امتلاك أكبر جيش تقليدي أوروبي في حلف شمال الأطلسي "الناتو"، وذلك برفع نسبة النفقات العسكرية، وزيادة عدد المقاتلين، إضافة إلى استثمار القدرات المالية الهائلة في رفع قدرات الجيش الألماني الدفاعية، عبر تزويده ببرامج تصنيع عسكري قتالية ذات طابع هجومي ودفاعي، حيث تشتهر الصناعات العسكرية الألمانية بقوة الدبابات ودورها في حسم المعارك البرية في مختلف أماكن الصراع في العالم.
كما تعرف برلين بقدرتها الصناعية المتقدمة عالميا حيث تعد من أكبر الاقتصادات، بسبب اعتمادها على الصناعة في مختلف المجالات، ومن أكثر الأمور التي تشتهر بها ألمانيا قدرتها الصناعية في مجال السيارات ذات الجودة العالية، التي تنافس أقوى السيارات في العالم، ما يمكنها من العودة إلى مجال التصنيع العسكري بسرعة منقطعة النظير، كونها دولة صناعية من الدرجة الأولى.
الصحوة الألمانية بضرورة التصنيع العسكري، وبناء جيش وطني قوي، لم تكن حديثة العهد، فالبدايات كانت منذ 2014 عندما سيطرت القوات الروسية على شبه جزيرة القرم، حيث تعالت الأصوات في البرلمان الألماني بضرورة بناء قدرات الجيش، ليكون قادرا على الردع والمواجهة في حال نشبت مواجهة عسكرية بين أوروبا وكيان ما في ظل النمو غير المسبوق للصين، وكذلك العودة التدريجية لروسيا في ظل حكم الرئيس فلاديمير بوتين.
الضرورات والتوسعات الجغرافية والعسكرية وتحركات روسيا الجديدة في المجال الإقليمي السيادي الأوروبي، دفعت برلين إلى الخروج بهيكل جديد للجيش الألماني، بالتزامن مع سعيها إلى الانفصال عسكريا عن تبعيتها لواشنطن والاعتماد على "الناتو" في تسويات الحروب والنزاعات، والحسابات الجديدة في ظل النظام العالمي الجديد وخلال الأعوام المقبلة.
المخاوف الألمانية كانت في مكانها، بعد أن شنت روسيا حربا على أوكرانيا، لحماية نفسها من توسع حلف الشمال الأطلسي -وجهة النظر الروسية-، كما تصاعدت المخاوف في ظل تنصل أمريكي واضح من التزاماته تجاه القارة العجوز، وبقية دول العالم بعد الانسحاب من العراق وأفغانستان، وترك هذه الدول أمام شبح الإرهاب، خصوصا تسليم أفغانستان لجماعة طالبان التي قدم لمحاربتها عام 2003.
الانتفاضة الألمانية لإحياء الجيش جاءت بشكل تراكمي، وكانت النقطة الفارقة فيها تصريحات الجنرال ألفونس مايس قائد الجيش الألماني، بعد تدخل روسيا في أوكرانيا بأيام، لوصف الجيش الألماني بأنه خالي الوفاض، حيث قال "في العام الـ41 من خدمتي العسكرية وفي وقت السلم لم أكن أفكر في أنني سأضطر إلى اختبار حرب، والجيش الألماني خالي الوفاض إلى حد ما، والخيارات التي يمكننا أن نقدمها للحكومة لدعم الناتو محدودة جدا".
أما في أحدث تصريحاته، التي جاءت بمناسبة تسليم دبابات القتال الرئيسة الألمانية من طراز "ليوبارد 2" إلى أوكرانيا، بين الجنرال ألفونس مايس أن الصندوق الألماني الخاص الجديد البالغ مائة مليار يورو "106 مليارات دولار" للجيش الألماني، في ضوء الحرب في أوكرانيا، لا يكفي لتجهيز القوات المسلحة في البلاد بشكل كامل.
دائما ما تلقى محاولات إعادة بناء الجيش الألماني بصورته القوية، التشكيك من قبل حلفاء برلين قبل أعدائها بأن ألمانيا إذا اشتدت شوكة جيشها، فستكون لديها الرغبة في تزعم أوروبا سياسيا وعسكريا، ما يثير التساؤلات عن الكيفية التي سيعود بها الجيش الألماني إلى الواجهة وهو لايمتلك ترسانة نووية.
ويخيم على حسابات محاولات بناء الجيش الألماني الجديدة، التنافس والصراع المبطن بين ألمانيا وفرنسا على أداء دور حارس القارة الأوروبية، خصوصا بعد انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي ترك فراغا قياديا سعت فرنسا إلى ملئه على نحو صريح، ولم تتساهل برلين مع ترك الزعامة العسكرية المطلقة لباريس، خصوصا أن التكنولوجيا والاقتصاد الألمانيين تفوقا على نظيريهما الفرنسيين خلال العقود الأخيرة الماضية.
نوويا، التقنية الألمانية المتقدمة هي سبب المخاوف الأوروبية من بناء جيش ألماني، حيث يحتاج الجيش الألماني إلى نحو ستة أشهر للحصول على السلاح النووي ذي الطابع القتالي، وقد تتفوق على كثير من الدول أعضاء النادي النووي العالمي في فترة قصيرة جدا، نظرا إلى قدراتها التصنيعية العالية والمتقدمة جدا، التي تتفوق بها على واشنطن وبكين وموسكو في كثير من المجالات، وهي قادرة على بسط كلمتها في العالم لطالما خطت هذه الخطوة، ما يجعل كثيرا من الدول الأوروبية والغربية في موقف المتفرج على الدور الألماني الريادي في العالم.
من جهة أخرى، يرى المعسكر الشرقي المتمسك بعداوته لواشنطن ومن يحالفها فرصة كبيرة في اتجاه برلين نحو إعادة بناء قدراتها العسكرية، حيث تعد النهضة العسكرية الألمانية، فرصة للخروج من المظلة الغربية الأمريكية والتبعية المطلقة لحلف الناتو، إضافة إلى تحرر ألمانيا من جميع شروط التبعية، التي تجعلها أسيرة للمعسكر الغربي، ما يعطيها الأفضلية لبدء مرحلة جديدة، قد تصنع قطبا جديدا لقيادة العالم، في ظل تنامي الرغبة الدولية في مشاركة واشنطن إدارة شؤون العالم، بعد أن تفردت بها لعقود بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.