الأزمة الأوكرانية تضع أمريكا بين زندان روسيا ومطرقة الصين
يوحي الاجتماع الذي دار وجها لوجه في نيودلهي أخيرا بين أنتوني بلينكين وزير الخارجية الأمريكي، ونظيره الروسي سيرجي لافروف ـ وهو أول تفاعل على هذا المستوى الرفيع منذ بداية العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا ـ بأن الدبلوماسية ربما لم تعد كلمة قذرة.
عـقـد اللقاء الذي دام عشر دقائق على هامش اجتماع مجموعة العشرين بعد أن وردت تقارير مفادها أن جيك سوليفان مستشار الأمن القومي الأمريكي حث أوكرانيا على أن تـظـهـر لروسيا أنها منفتحة على التفاوض على إنهاء الحرب. تقدم هذه التطورات الأخيرة مجتمعة بصيصا من أمل في أن يكون وقف إطلاق النار في حـكـم الممكن. بحسب براهما تشيلاني، أستاذ الدراسات الاستراتيجية في مركز أبحاث السياسات ومقره نيودلهي، وزميل أكاديمية روبرت بوش في برلين، ومؤلف كتاب المياه والسلام والحرب، مواجهة أزمة المياه العالمية Rowman & Littlefield، 2013.
الواقع أن الحرب الدائرة في أوكرانيا، التي زعزعت أركان النظام الدولي، هي من نواح كثيرة حرب بالوكالة بين القوتين الرئيستين في العالـم، حيث تتلقى روسيا الدعم من الصين وتقدم الولايات المتحدة الدعم لأوكرانيا. على مدار العام الماضي، أشعلت الحرب شرارة أزمات الطاقة والغذاء على مستوى العالـم، واستحثت التضخم المرتفع وسط حالة من تباطؤ النمو العالمي، وزادت من حدة خطر نشوب نزاع مباشر بين روسيا ومنظمة حلف شمال الأطلسي "الناتو" ـ وهو الخطر الذي أكدته واقعة إسقاط روسيا أخيرا لطائرة أمريكية مـسـيـرة دون طيار فوق البحر الأسود.
مع ذلك، بعد أكثر من عام من القتال، بات من الواضح أن الصراع اتخذ هيئة حرب استنزاف، حيث يناضل كل من الجانبين لتحقيق تقدم كبير في ساحة المعركة. السبيل الوحيد للخروج من هذا المأزق العسكري هو وقف إطلاق النار، لكن التوصل إلى اتفاق قد يستغرق وقتا طويلا. وصلت الحرب الكورية (1950-1953)، على سبيل المثال، إلى طريق مسدود لمدة عامين قبل التوصل إلى اتفاق الهدنة.
من الواضح أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتن يعتقد أن حرب استنزاف مطولة تعمل لمصلحته، على النحو الذي يـمـكـن جيشه من اختبار عزيمة الغرب. لإرباك الدفاعات الجوية الأوكرانية، تطلق روسيا عددا أكبر من الصواريخ في وقت واحد، بما في ذلك الصواريخ الفرط صوتية من طراز كينجال، التي يستحيل إسقاطها. على الرغم من فيض أنظمة الأسلحة الغربية التي تلقتها، فإن أوكرانيا ليست في وضع يسمح لها بإحباط الهجمات الجوية الروسية متزايدة الكثافة.
لكن من الواضح على نحو متزايد أيضا أن روسيا لا تستطيع تحقيق هدفها الاستراتيجي في أوكرانيا. فربما نجحت في احتلال ما يقرب من خـمس أراضي أوكرانيا لكنها أوجدت جارة أكثر عدائية وجددت نشاط الناتو، الذي يستعد الآن لقبول فنلندا، وفي الأرجح السويد، في عضويته. علاوة على ذلك، من المرجح أن تستمر عديد من العقوبات غير المسبوقة التي فرضها الغرب على روسيا إلى ما بعد الحرب وتـنـزل بالاقتصاد الروسي أضرارا طويلة الأمد.
من ناحية أخرى، فشلت استراتيجية "الحرب الهجينة" التي ينتهجها الرئيس الأمريكي جو بايدن، التي تسعى إلى إصابة روسيا بالشلل من خلال أساليب القوة الناعمة واستخدام التمويل العالمي كسلاح، في إسقاط بوتين أو الروبل، كما تعهد بايدن في المراحل المبكرة من الحرب. صحيح أن نظام العقوبات الذي تقوده الولايات المتحدة نجح في الحد بشدة من قدرة روسيا على إعادة تموين قواتها لكنه فشل في إيقاف آلة حرب الكرملين. ورغم أن العقوبات أثرت بشدة في عائداتها من صادرات الطاقة، فقد وجدت روسيا مشترين راغبين في نفطها وغازها الطبيعي في الأسواق غير الغربية "وإن كان ذلك بسعر مخفض".
إذا لم يحدث انهيار معنوي يدفع الجنود الروس إلى الاستسلام بشكل جماعي ـ وهو احتمال وارد بالنظر إلى تاريخ الجيش الروسي ـ فمن غير المرجح أن تتمكن أوكرانيا من إجبار روسيا على الانسحاب الكامل من الأراضي التي احتلتها في شرق وجنوب البلاد. ورغم أن الولايات المتحدة تعهدت بدعم وحدة أراضي أوكرانيا، فإن استعادة السيطرة الأوكرانية على هذه المناطق تبدو هدفا بعيد المنال في أفضل تقدير.
من ناحية أخرى، تـعـد الصين الدولة الوحيدة التي قد تستفيد من صراع ممتد الأجل. وكما جاء في تقرير حديث صادر عن مؤسسة "روسيا الـحـرة" التي تتخذ من واشنطن العاصمة مقرا لها، فإن الصين هي بالفعل "الرابح الأكبر" من العقوبات الغربية المفروضة على روسيا. أصبحت الصين المصرفي الذي تعتمد عليه روسيا، وشريكها التجاري الأكثر أهمية، مستغلة الحرب لإنشاء شبكة أمان للطاقة من خلال تأمين إمدادات أكبر من النفط والغاز الروسيين التي لا يمكن تعطيلها حتى لو قررت الصين غزو تايوان.
كلما ازدادت الولايات المتحدة انجرافا إلى الحرب الدائرة في أوكرانيا، تعاظمت احتمالية إقدام الصين على غزو تايوان واقتربت أمريكا من تحقيق كابوسها الجيوسياسي الأسوأ على الإطلاق، المحور الاستراتيجي الصيني الروسي. ربما لا تزال الولايات المتحدة القوة العسكرية الأولى في العالـم في الوقت الحالي، لكن تحدي قوة الصين وروسيا مجتمعتين سيكون مهمة بالغة المشقة.
كشفت الحرب بالفعل عن أوجه القصور العسكرية في الغرب، مثل استنفاد إمدادات الذخيرة الحرجة، وكفاح أمريكا لزيادة حجم تصنيع الأسلحة، وضـعف الإجماع بشأن أوكرانيا بين الولايات المتحدة وأوروبا. كل هذا قد يغري الرئيس الصيني شي جين بينج بالسعي إلى استنفاد الترسانات الغربية بشكل أكبر قبل غزو تايوان، عن طريق شحن الأسلحة بشكل غير مباشر إلى روسيا وإرغام الولايات المتحدة وحكومات أخرى على زيادة إمدادات الأسلحة إلى أوكرانيا. الواقع أن شي جين بينج يـعـين بوتين على حربه بدرجة محدودة بالفعل من خلال تزويد روسيا والكيانات الروسية الخاضعة للعقوبات بالطائرات المسيرة دون طيار، ومعدات الملاحة، وتكنولوجيا التشويش، وقطع غيار الطائرات المقاتلة، وأشباه الموصلات.
بينما يعتقد بعض المراقبين في الغرب أن التوصل إلى وقف إطلاق النار في أوكرانيا عن طريق التفاوض من شأنه أن يشجع الصين على مهاجمة تايوان، فإن شي جين بينج لا يحتاج إلى أن تـظـهـر له روسيا أن العدوان يؤتي ثماره. ذلك أن نزعة الصين التوسعية التي لا تكلفها شيئا، من بحر الصين الجنوبي إلى منطقة الهيمالايا، هي كل ما يحتاج إليه من إثبات.
كما يشير تقرير مؤسسة الأبحاث والتطوير RAND الصادر أخيرا، فإن الحرب الممتدة الأجل في أوكرانيا لا تصب في مصلحة أميركا. فقد يؤدي الصراع المطول إلى زيادة تدفقات الأموال والأسلحة الأمريكية إلى أوكرانيا، ما يزيد من خطر نشوب صراع بين "الناتو" وروسيا ويعيق قدرة الولايات المتحدة على الاستجابة للتحدي الذي تفرضه الصين. كما اعترف بايدن بالفعل، فإن "التسوية التفاوضية" هي السبيل الوحيد لإنهاء الحرب ـ ومن الأفضل السعي إلى هذه التسوية الآن وليس بعد أشهر أو أعوام من إراقة الدماء والدمار.