تحدي الذكاء الاصطناعي وتفعيل ذكاء الناشئة
عندما نحاول استشراف طريق المستقبل، ونخطط للتأثير فيه، ونبحث عن دور فاعل لتوجيهه، لا بد أن نسعى إلى فهم معطيات الوضع الراهن، بل إلى استيعاب تطورات الماضي التي أفرزت هذا الوضع أيضا. ففي ذلك رصيد معرفي نحتاج إليه من أجل إنارة الطريق المنشود. وتبرز أمامنا بين قضايا المستقبل مسألة تحدي الذكاء الاصطناعي لسوق العمل، وتقترن هذه المسألة بالحاجة إلى الاهتمام بتفعيل ذكاء الإنسان، لكي يستطيع أن يكون متقدما دائما على الذكاء الاصطناعي، وقادرا على أداء مهمات متميزة يعجز هذا الذكاء عن تقديمها. وليس ذلك مستبعدا لأن ذكاء الإنسان، وما وهبه الله تعالى من قدرات، هو الذي أوجد الذكاء الاصطناعي وسخره لتنفيذ مهمات كثيرة، وهو لذلك صاحب اليد العليا، وما يشهده الذكاء الاصطناعي من تقدم متواصل، ما هو إلا حصيلة ما استطاع ذكاء الإنسان تقديمه.
يتمتع الذكاء الاصطناعي بتطور متنام، حيث تقول إحصائيات، رصدتها الباحثة آشلي ستال، وطرحتها في مقال في مجلة "فوربز"، في آذار (مارس) 2021، إن تطبيقات الذكاء الاصطناعي ازدادت 270 في المائة خلال الفترة بين 2017 و2021. وتقول هذه الإحصائيات أيضا إن 90 في المائة من الأعمال في المجالات الرئيسة في الولايات المتحدة تستثمر في هذه التطبيقات. فالذكاء الاصطناعي ليس علما خاصا محدود التطبيقات، بل هو علم عام تنتشر تطبيقاته في مختلف المجالات.
يحتاج التعامل مع مسألة تحدي الذكاء الاصطناعي المتزايد لسوق العمل، إلى الاهتمام بتفعيل ذكاء الناشئة، لأن هذا التفعيل يجعلهم أكثر قدرة على أداء المهام التي لا يستطيع الذكاء الاصطناعي أداءها من جهة، كما يمكنهم من تطوير هذا الذكاء وتطبيقاته بالاتجاهات التي يرونها داعمة لمهامهم الذكية من جهة ثانية. وسيهتم هذا المقال بطرح موضوع تحدي الذكاء الاصطناعي لسوق العمل من جهة، وتفعيل ذكاء الناشئة لمواجهة هذا التحدي من جهة أخرى، ويسعى من خلال ذلك إلى طرح بعض الأفكار المفيدة في هذا الشأن.
إذا بدأنا بتحدي الذكاء الاصطناعي، فلعلنا نبين أولا المقصود بهذا الذكاء تبعا لما تقوله "الموسوعة البريطانية". تقول هذه الموسوعة، التالي "يتمثل الذكاء الاصطناعي في قدرة الحاسوب، والأنظمة المحكومة بالحاسوب "الروبوتات"، على أداء أعمال يقوم بها الإنسان". ويعتمد الذكاء الاصطناعي، في أداء مثل هذه الأعمال، على برامج حاسوبية تستند إلى نظريات تتعلق "بتعلم الآلة، أي جعل الآلة قادرة على التعلم. ويتطلب تعلم الآلة، وتأهيلها لأداء مهمات ذكية في مجال من المجالات، تزويدها ببيانات حول هذه المجالات. وتمثل هذه البيانات بالنسبة إلى الآلة القادرة على التعلم، خبرات ودلالات، تبني ذكاءها، وتعمل على توجيه عملها.
وللذكاء الاصطناعي حضور متزايد في تطبيقات عديدة، فهو يؤدي الوظائف التي تستند إلى منهجيات عمل روتينية متكررة أو تتبع نماذج من البيانات. ففي وظائف جمع المعلومات، وتصنيفها، واستقراء النتائج من خلال ذلك، في إطار متطلبات محددة، تبحث عن قرارات مطلوبة، نجد الذكاء الاصطناعي حاضرا ومستعدا لتنفيذها. وهناك أمثلة متعددة لمثل هذه الوظائف، بينها ما يرتبط بالتجارة الإلكترونية والتعرف على متطلبات العملاء، وبينها ما يتعلق بتشخيص الأمراض واقتراح توجهات علاجها، وبينها أيضا رصد المخاطر على الأمن السيبراني وتقديم الحلول اللازمة للحماية منها، فضلا عن الترجمة بين اللغات، وغير ذلك.
ونجد الذكاء الاصطناعي، إضافة إلى ما سبق، حاضرا أيضا لتنفيذ وظائف التوجيه الروتيني لعمل الأنظمة الميكانيكية. ومن أمثلة ذلك روبوتات العمل في المصانع، حيث يحل الروبوت مكان الإنسان في تنفيذ كثير من المهمات داخل المصانع المختلفة، إضافة إلى حلول روبوت قيادة وسائل النقل من سيارات وقطارات وطائرات، مكان الإنسان في أعمال مختلفة، تتطور باطراد. وهكذا نجد أن تحدي الذكاء الاصطناعي لسوق العمل قائم فعلا، لكنه يأتي متدرجا، وربما في إطار زمني طويل المدى. وتجدر الإشارة هنا إلى أن هناك من يرى أن انتشار تطبيقات الذكاء الاصطناعي، لن يؤدي سلبيا إلى الاستغناء عن الإنسان في مثل هذه الأعمال الروتينية فقط، بل سيؤدي إيجابيا في المقابل إلى ابتكار نماذج جديدة للعمل تحتاج إلى الذكاء الطبيعي للإنسان، إلى جانب الذكاء الاصطناعي.
وسواء كان الذكاء الاصطناعي مختطفا فقط للوظائف الروتينية التي يقوم بها الإنسان، أو كان مختطفا لهذه الوظائف، لكن مقدما في المقابل لوظائف بديلة تحتاج إلى الذكاء الإنساني، فإن مواجهة تحدي الذكاء الاصطناعي تتطلب إعداد الناشئة بأسلوب يفعل ذكاءهم استعدادا لتنفيذهم لوظائف تحتاج إلى ذكاء إنساني. ومثل هذا الأسلوب غائب في رأي كثيرين عن كثير من مدارس العالم. ففي هذا المجال، ترى كارول دويك Carol Dweck، الأستاذة المتخصصة في التعليم في جامعة ستانفورد، عبر دراساتها، أن المدارس ترسخ "العقلية الثابتة" في الطلاب وتبعدهم عن التفكير والتجريب والإبداع، وتحد بالتالي من ذكائهم الفطري. وهي تدعو، انطلاقا من ذلك، إلى تطوير التعليم باتجاه بناء "العقلية النامية" المنفتحة على التعلم الذاتي والتفكير، والتجربة والخطأ، والإبداع والابتكار.
ولعلنا نذكر في هذا المجال رأيا في التعليم لألبرت أينشتاين، أحد أبرز علماء القرن الـ20، حيث يقول، "ليست غاية التعليم هي التعرف على الحقائق، بل هي تدريب الإنسان على التفكير". وهذا ما يحتاج إليه الناشئة من التعليم مع تطور دور الذكاء الاصطناعي في هذا العصر. ولعلهم يحتاجون أيضا، وفي سن مبكرة، إلى البدء بتعلم نظريات الذكاء الاصطناعي، وكيفية بناء تطبيقاته في المجالات المختلفة. فالوظائف الإنسانية الذكية ستعمل جنبا إلى جنب مع وظائف الذكاء الاصطناعي، ولا بد لذكاء الإنسان من التفوق على هذا الذكاء، عبر استيعاب مضامينه واكتساب القدرة على توجيهها.
يقرع الذكاء الاصطناعي أبواب حياتنا بإيقاع متسارع، وقوة متزايدة، تحمل لنا إمكانات متجددة وغير مسبوقة، وتنذر في الوقت ذاته بتحديات معرفية ينبغي الاستجابة لها. ويتمثل الطريق المنشود أمامنا في تأهيل أفضل للناشئة يفعل ذكاءهم الفطري، ويعزز قدرتهم على التفكير، ويعدهم لدور متميز في شؤون المستقبل.