العملات المشفرة أمام اختبار القدرة على البقاء .. بيات شتوي أم اندثار؟

العملات المشفرة أمام اختبار القدرة على البقاء .. بيات شتوي أم اندثار؟
موجة حالية من الجفاف ضربت وديان عالم العملات المشفرة.

منذ بداية العام والحديث الاقتصادي ينصب على قضايا التضخم وسبل لجمه، وارتفاع أسعار الفائدة العالمية وفوائدها وأضرارها على الاقتصاد الدولي، وفي الأيام القليلة الماضية خطف إفلاس بنك سيليكون فالي الأمريكي، ثم بنكي سيجنتشر وسيلفرجيت الأضواء من قضية التضخم، ثم اقتحم بنك كريدي سويس المشهد، وبالاستحواذ عليه من منافسه "يو بي إس" بات الحديث يتركز حول: هل الاقتصاد العالمي مقبل على أزمة مالية مماثلة لما حدث عام 2008؟
ومع هذا الزخم، كان التنسيق بين مجموعة من البنوك المركزية العالمية، لتسهيل انتقال الدولار بينها، محور اهتمام إعلامي كبير، نظرا إلى ما يمكن أن تمثله تلك الخطوة من طوق نجاة من أزمة مالية تلوح في الأفق.
وسط هذا الخضم من الأحداث المتتالية والمثيرة للقلق الاقتصادي، غاب الحديث عن العملات الافتراضية، فخفتت في تعليقات المعلقين، بعد أن كانت حديث المواقع والمنتديات في الأعوام الأخيرة، وتلاشت تقريبا من المشهد الاقتصادي، وباتت من وجهة نظر البعض نسيا منسيا.
هل يمكنا القول إن الانهيار المذهل لشركة FTX كان إيذانا باندثار عالم العملات الافتراضية، أم أن شائعة وفاة العملات المشفرة مبالغ فيها كثيرا؟ لا شك أن ملايين من أنصار العملات الافتراضية لا يزالون متمسكين بإيمانهم بها، والأمر لا يعدو من وجهة نظرهم إلا حالة من البيات الشتوي قد تطول لبعض الوقت، لكن المؤكد بالنسبة إليهم أن شمس عملاتهم الافتراضية ستشرق يوما ما من جديد، على الضفة الأخرى يقف الخصوم رافعين رايات النصر على الأقل حاليا بأن ما تنبأوا به لأعوام كان صحيحا، وأن العملات الافتراضية لم تكن أكثر من سراب يروج له ويؤمن به ثلة من الواهمين.
على أي حال الموجة الحالية من الجفاف الذي ضرب وديان عالم العملات المشفرة لم تكن الأولى من نوعها، إذ سبق أن تعرض عالم العملات المشفرة لزلازل وبراكين عصفت به لبعض الوقت، لكنه أثبت دائما أنه كطائر العنقاء الأسطوري، يولد من جديد من لهب النيران. المؤكد أيضا أن الإعصار الحالي الذي يضرب عالم العملات الافتراضية هو الأكثر قسوة ويمثل اختبارا حقيقيا لقدرتها على الصمود والبقاء.
"الاقتصادية" استطلعت آراء عدد من الخبراء حول مستقبل العملات المشفرة، وهل يمكن لها أن تنمو من جديد، أم أن ما حدث في أواخر العام الماضي كان إيذانا بالنهاية؟
في هذا الإطار قال لـ"الاقتصادية" رواي توماس نائب المدير التنفيذي لشركة "إتش إل تي إتش" للعملات المشفرة "صحيح أن فقدان الثقة ببورصات العملات المشفرة مثل FTX التي تعد من الوسطاء الماليين الأساسيين في هذا المجال يعني بالتأكيد انخفاضا حادا في أسعار الأصول المشفرة، لكن علينا أن نتذكر أن الأغلبية العظمى من معاملات العملات المشفرة وتحديدا بيتكوين أكبر وأهم العملات المشفرة تداولا، تتم خارج البورصات، وإذا كانت البورصات عاملا رئيسا في زيادة أسعار العملات المشفرة خلال الفترة الماضية، فتقديري أن الأزمة الراهنة أزمة مؤقتة".
وأضاف "لا يوجد تاريخ زمني محدد يمكن الإشارة إليه لاستعادة الأسواق قوتها المفقودة، لكن علينا أن نتذكر أن التشفير أفضل استعدادا الآن لمواجهة الأعاصير التي تضرب السوق، فقد تم جمع مليارات الدولارات من أموال رأس المال الاستثماري المشفر وتشغيلها، ما يمنح عديدا من مؤسسي العملات المشفرة وسادة نقدية للاعتماد عليها في لحظات الأزمات وانخفاض أسعار الأصول كما هي الحال حاليا".
تبدو وجهة النظر تلك متفائلة تجاه قدرة عالم العملات المشفرة على النجاة من أزمته الحالية، كما أنها تلقى قبولا نسبيا من الدكتورة لوسي كي أستاذة النقود والبنوك في جامعة جلاسكو، التي ترى أن القيمة السوقية لجميع العملات المشفرة أعلى مما كانت عليه أواخر عام 2020، ما يعطي مؤشرا إيجابيا بأن أسواق العملات المشفرة يمكن أن تنجو في نهاية المطاف.
وذكرت لـ"الاقتصادية" أنه "لا بد من أخذ الوضع الاقتصادي العام في الحسبان عند دراسة مستقبل العملات المشفرة، فهي لا تعمل بمعزل عنه، إذ إن انحسار التضخم وخفض الاحتياطي الفيدرالي من أسعار الفائدة، يحتملان أن يساعدا أسعار العملات المشفرة على الارتفاع من جديد، والأهم رصد سلوك الجماعات المؤيدة للعملات المشفرة وإلى أي مدى ستكون قادرة على احتواء الأضرار التي تعرضت لها أسواق العملات الافتراضية".
واستدركت قائلة "المسار الأكثر احتمالا في المستقبل هو تحسين تنظيم أسواق العملات المشفرة، فالتنظيم الفعال يعيد الثقة بالأسواق ويرفع من قيمة العملات المشفرة، لكن هذا التنظيم سيأتي على حساب فقدان اللامركزية أحد العناصر الأساسية في مفهوم العملات المشفرة، باختصار لكي تستطيع العملات المشفرة تجاوز أزمتها الراهنة واستعادة بريقها السابق عليها أن تقدم بعض التنازلات أبرزها مزيد من التنظيم والمركزية".
بدوره، يعتقد اليوت بوبي الخبير المصرفي والاستشاري في بنك إنجلترا، أن فقاعة العملات المشفرة قد انفجرت وولت، وأنصار العملات المشفرة من وجهة نظره يحاولون أن يقللوا من كارثة انهيار FTX بتصويرها أنها كارثة مشابهة لانهيار بنك ليمان براذرز في الولايات المتحدة عام 2008 التي أدت إلى الأزمة المالية العالمية".
وأشار بوبي إلى أن إعلان أنصار العملات المشفرة، أن النظام المصرفي العالمي لم ينهر تماما، وتم إصلاحه ونهض مجددا من تحت الركام، وسوق العملات المشفرة ستنهض من جديد، غير صحيح والمقارنة سقيمة ولا تستقيم.
وأوضح لـ"الاقتصادية" أن "انهيار بنك ليمان براذرز وحتى الإفلاسات البنكية التي حدثت أخيرا في الولايات المتحدة وسويسرا، يمكن التغلب عليها من خلال دعم البنوك المركزية للنظام المصرفي العالمي وإعادة تنظيمه وبنائه من جديد عبر ضخ مليارات وربما تريليونات الدولارات، لكن هذا لن يحدث في أسواق العملات المشفرة، إذ لا تقف خلفها حكومات أو بنوك مركزية تساندها، هناك مجموعة من الشركات ربما تمتلك رؤوس أموال ضخمة، لكنها لا تستطيع إنقاذ العملات المشفرة من مصيرها الحتمي بالتلاشي".
وبين بوبي وجهة نظره بأن التلاشي مصير حتمي للعملات المشفرة بالقول "لا أعنى أنها ستختفي في الأمد القصير، لكن سنشهد مزيدا من فرار المستثمرين والمؤسسات الرئيسة التي تستثمر فيها، وما يروج له الآن بالحاجة إلى إصلاح تنظيمي لاستمرار أسواق العملات المشفرة، يعني تخلي المؤيدين والمدافعين عنها عن عديد من المفاهيم الأساسية لها لكي تضمن البقاء، ويمكنها بذلك أن تبقى، ولكن بعد أن تكون قد فقدت مضمونها ومعناها باعتبارها منافسا للعملات التقليدية".
ويعتقد أن انخفاض أسعار الفائدة التي بلغت الصفر في بعض الأعوام شجع البعض على المخاطرة بالاستثمار في أسواق العملات المشفرة، لكن مع ارتفاع أسعار الفائدة فإن استعداد البعض للاستثمار في سوق العملات الرقمية أو المشفرة أو الافتراضية يتلاشى، وبالطبع إذا ما انخفضت أسعار الفائدة يوما ما، المستبعد حدوثه في القريب العاجل، فربما يعود البعض إلى المخاطرة والاستثمار في العملات المشفرة من جديد، ولكن هؤلاء لن يبقوا من وجهة نظره أكثر من مقامرين وليسوا مستثمرين بالمعنى العلمي للكلمة، وهؤلاء المقامرون سيكونون دائما موجودين في الأسواق، لكن لن يمثلوا شريحة يعتد بها في المجال الاستثماري.
في المقابل، يرى بنجامين برودي الخبير الاستثماري وجهة اليوت بوبي متطرفة في عدائها للعملات المشفرة، وتتجاهل عديدا من جوانب النجاح التي حققتها منذ ظهورها كأحد الأصول الاستثمارية التي تحظى بشعبية، لكنه يشير في الوقت نفسه إلى أن الأجواء الراهنة التي تراجعت فيها شعبية العملات الافتراضية كمجال استثماري، أوجدت حالة من عدم اليقين تجاهها، ما أضعف الثقة بها، وربما يمثل ذلك التحدي أو العقبة الأكبر التي تحول دون استعادتها جدارتها السابقة كقناة استثمار.
وقال برودي لـ"الاقتصادية"، "إن أبرز مشكلة ظهرت في عالم التشفير أنه لا توجد شبكة أمان يمكن أن تعوض المستثمر عن جزء من خسائره عند انهيار العملات المشفرة تماما، وعندما أفلس بنك سيليكون فالي تعهدت إدارة الرئيس بايدن بضمان أموال المودعين حتى 250 ألف دولار".
واستدرك "في عالم التشفير لا يوجد من يضمن أي جزء من خسائرك، مستقبل العملات المشفرة مرتبط بالمبادئ التنظيمية التي سيتم تبنيها في المرحلة المقبلة، فإذا اتسمت الأسواق بالشفافية فربما يظل المستثمرون العاديون مشاركين في سوق العملات المشفرة، لكن المشكلة أن موقف اللاعبين الرئيسين في سوق العملات المشفرة مختلط ومتضارب بين القبول بفكرة التنظيم والرفض لها".
ولذلك يبدو المستقبل -وفقا لبنجامين برودي ودعوته إلى مزيد من التنظيم في هذا القطاع الاستثماري- محملا بكثير من الآفاق الواعدة للعملات الرقمية التي تصدرها البنوك المركزية، التي يمكن أن تحل محل الأصول الرقمية الخاصة والعملات المشفرة، فقيام البنوك المركزية بدور الضامن للعملات الرقمية التي تصدرها يمنح المستثمرين كثيرا من الثقة، وربما يسفر هذا الوضع عن انقسام في سوق العملات المشفرة، أحدها يقع ضمن المنتجات المالية للبنك المركزي ويتصف بالرصانة والمراقبة المحكمة، وآخر يقع خارج القواعد التنظيمية الرسمية.
وبالطبع هذا المشهد لا يتفق مع أحلام الآباء المؤسسين لعالم التشفير، لكنه يبدو المشهد الأكثر ترجيحا، فإن لم يكن هناك إصلاح تنظيمي جذري لأسواق التشفير، فإن التقلبات والفوضى ستكونان السمة البارزة لعالم العملات المشفرة.

سمات

الأكثر قراءة