الاستراتيجية الرقمية الصينية .. بوابة السيطرة العالمية
بينما تقضي الدول وقتها في الصراعات والنزاعات الداخلية أو الخارجية، منها التي ما وراء المحيطات، وأخرى تتدارك انهيار منظومتها البنكية، فيما تقضي دول أوقاتا لخمد احتجاجات على قوانين سنتها الحكومات فيما يتعلق بالتشريعات القضائية وأنظمة التقاعد، تبني الصين صناعة حداثية متفردة، تمكنها الدخول من بوابة الثورة الصناعية الخامسة، التي تعطيها الأولوية في السيطرة على العالم تكنولوجيا في الفترة المقبلة.
الاستعدادات الصينية على قدم وساق، لبناء حضارة ذكية تجمع بين ثلاث ركائز أساسية، وهي: الإنسان، والبنية التحتية الرقمية، والروبوتات، التي سيكون الإنسان فيها الصانع الأولي فيما سيكون الانتقال تدريجيا للذكاء الاصطناعي والروبوتات، التي ستمسك زمام الأمور فيما بعد، حيث أصدرت وكالات حكومية خاضعة لوزارة الصناعة وتكنولوجيا المعلومات الصينية مبادرة "روبوت+"، التي تسعى من خلالها إلى تحفيز تطبيق الروبوتات في عشرة مجالات اقتصادية واجتماعية رئيسة تغطي مجالات التصنيع والطاقة والرعاية الصحية ورعاية المسنين والتعليم، بهدف مضاعفة كثافة الروبوتات الصناعية لتصل إلى 492 روبوتا لكل عشرة آلاف عامل تصنيع بحلول 2025، بعد أن تمت الموافقة على هذا المقترح في 2022.
وتعمل بكين على مضاعفة دور الروبوتات بالتزامن مع عملية التحول الرقمي، التي سيتم العمل عليها في البلاد، لتكون البنية التحتية التقنية شاملة لكل مناحي الحياة هناك، حيث ستحقق المبادرة اختراقات في أكثر من 100 نوع من تقنيات وحلول تطبيقات الروبوتات المبتكرة، من خلال 200 تطبيق آلي، مع التركيز على حالات الاستخدام الأكثر تقدما وابتكارا، ولتسهيل تطبيق عمليات التتنفيذ تم إنشاء مؤسسات تقييم المبادرة الجديدة، وبناء عديد من الخبرات التطبيقية، إضافة إلى مراكز الاختبار والتحقق.
بدايات رحلة التحول الصينية كان الحديث عنها للمرة الأولى في 2000، بعد إعلان الملامح الأولية للاستراتيجية الرقمية، لتكون بعد نحو 17 عاما، استراتيجية قومية للبلاد، ولتسجل اليوم المرتبة الأولى على مستوى العالم، في الاستراتيجيات الرقمية، مثيرة بذلك قلق الولايات المتحدة، وما يثير ذعر الخصوم أكثر فأكثر هو مطلق هذه الاستراتيجية الرئيس شي جين بينج، الذي كان وقت الحديث الأول عن هذه الاستراتيجية، حاكما لمقاطعة فوجيان ذات السمعة الاقتصادية الكبيرة، حيث أطلق على اسم استراتيجية "فوجيان الرقمية" آنذاك، كونها وسيلة للارتقاء بنظام الحوكمة المحلية والأداء الاقتصادي.
ولتوطين الاستراتيجية، أعلن الحزب الشيوعي الصيني إنشاء مكتب وطني للبيانات، بحيث يكون الهيئة المنظمة الوحيدة المسؤولة عن إدارة كل الأنشطة ذات الصلة بالبيانات، في إشارة إلى مدى اهتمام الصين بمجال التحكم بالبيانات، فيما نقلت وسائل الإعلام الصينية إعلان مجلس الدولة واللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني أخيرا، إصدار المبادئ الرسمية لخطة الاستراتيجية الجديدة، التي تسعى إلى تحويل المجتمع الصيني نحو الرقمنة، مطلقة تسمية "استراتيجية الصين الرقمية" عليها، لتكون بعد أكثر من عقدين الاستراتيجية التي تحمل توقيع الرئيس الصيني شخصيا، ما يعطيها ميزة إضافية.
تحمل الاستراتيجية الرقمية الصينية أبعادا استراتيجية متعددة، منها التصميم الشامل، بهدف تغيير جميع مجالات التنمية القومية الاقتصادية، والسياسية، والثقافية، والاجتماعية، والبيئية، كما سيتم تطبيق الاستراتيجية الجديدة على مجموعة واسعة من القرارات والتعديلات والمهام، حتى أصغر المشاريع الخاصة بالحزب الشيوعي، وعلى مدار شهور وأعوام من خلال اتباع نهج التجربة والخطأ نظرا إلى حداثتها النسبية، التي ستحول الصين إلى الرقمنة كليا بحلول 2025، لتصبح العاصمة الصينية رائدة عالميا في المجال الرقمي في غضون 2035.
تسير الاستراتيجية وفقا لخطة عمل تحمل الرمز 2522، وهو الرمز المختصر لأرقام البنود الرئيسة لها، وتشير هذه الأرقام الرمزية إلى وجود مسارين للاستراتيجية، الأول تحويل البنية التحتية التقليدية إلى نظام رقمي متكامل، يعتمد عليها في كل نواحي الحياة اليومية للمواطن الصيني، فيما يعمل المسار الآخر على صناعة نظام على المستوى القومي لإدارة البيانات والتحكم فيها.
أوضحت بكين أنها ستحقق المسار الأول، من خلال بنية تحتية جديدة كليا، قادرة على احتواء عملية التحول نحو الرقمنة الكلية، التي ستضم قائمة من التقنيات التي سيتم تعميمها على المستوى القومي، على سبيل الذكر لا الحصر، إنترنت الأشياء، والإنترنت الصناعي، وتكنولوجيا الجيل الخامس والجيل السادس، وكذلك تكنولوجيا البلوكتشين والذكاء الاصطناعي، حيث ستخضع "المجالات الخمسة" للبنية التحتية التقليدية "الاقتصادية، السياسة، الثقافية، الاجتماعية، البيئية"، كما سيشهد هذا التحول عملية "دمج عميقة" مع التكنولوجيا الرقمية.
ويعكس ذلك التطلع رؤية الصين نحو إيجاد مجتمع ذكي وفاعل داخليا، بهدف تصدير هذا النموذج إلى الخارج بحثا عن تأمين مكانتها كقوة عظمى، وبمجرد الانتهاء من عملية الدمج، ستتحول مجالات الاقتصاد، والسياسة، والثقافة، والاجتماع، والبيئة إلى الرقمنة وستصبح جاهزة لتطبيقها على المستويين المحلي والدولي، حيث تشير التوقعات الصينية إلى أن الإقبال الدولي سيكون كبيرا على التحول نحو الرقمنة، التي ستكون لغة الأعوام المقبلة التي يتحدث بها العالم في بنيته التحتية.
أما المسار الثاني للاستراتيجية الصينية المعلنة أخيرا، فيتمثل في السيطرة والنفوذ المنطلق من البعد الداخلي المرتكز على القوة والثبات، للانتشار خارجيا، حيث تهدف بكين من استراتيجيتها إلى إيجاد نظام قومي للتحكم في البيانات، التي تعد مصدرا جامعا وموزعا عبر المنابع ذات التصنيف العام والخاص، إذ يمكن للحكومات، والأشخاص، وقطاعات الأعمال المختلفة أن تحقق نتائج أفضل فقط إذا كان لديهم وصول أسهل لحجم بيانات أكبر.
وتسعى الحكومة الصينية إلى تحقيق هذا الهدف، من خلال مبادرات عدة، مثل مبادرة "شنغهاي لتبادل البيانات"، وهي سوق لتبادل البيانات، حيث يمكن لقطاعات الأعمال المختلفة أن تتصفح قائمة بالبيانات المتاحة، ولأي غرض يمكن استخدامها، وبهذه الطريقة، يمكن لمجالات الأعمال الصينية الوصول إلى بيانات تخص شركات أخرى، ومن ثم بناء تصورات تساعد على اتخاذ القرارات، التي ستسهم في عمليات التطوير والتنمية، ولهذا تعمل الصين على تحويل البيانات إلى أصول استراتيجية يمكن تبادلها وبيعها، على قدم المساواة مع سلع استراتيجية أخرى كالنفط، والغاز الطبيعي، والذهب.
وتمثل استراتيجية الصين الرقمية جهود الحكومة الصينية الهادفة إلى أداء أداء دور قيادي، خلال الثورة الصناعية المقبلة، وهي الحقبة التي ستمثل فيها البيانات بنية تحتية محورية في المدن الذكية وستغير حياة البشر بشكل كلي، وهو المجتمع الذي تطلق عليه الصين اسم "حضارة ذكية". وستستخدم البيانات في الحضارة الذكية، لبناء خطط تقاعدية حديثة، ولمكافحة الأمراض، وإيجاد اقتصاد أخضر، وستقوم الخوارزميات بتنظيم حركة المرور، وحساب عوامل خطر وقوع حوادث السير، وستقيس مخاطر حدوث فيضانات في أوقات الأمطار الغزيرة، وحساب احتمالية اندلاع الحرائق خلال موجات الحر الصيفية، وتحديد هوية الإرهابيين أو تجار المخدرات أثناء سيرهم في الشوارع.