صراع التطبيقات .. جمع البيانات الساخنة يطيل أمد الحرب الباردة
كان يعلم مهمته بالتحديد، الحديث مع الروس العاديين قدر الإمكان، جمع المعلومات حول معيشتهم وما يحدث في دوائر أعمالهم العادية، ثم بدقة بالغة عليه إرسال ما في حوزته إلى واشنطن التي تبعد عن موسكو نحو عشر ساعات بالطائرة، هكذا قضى بوريس موروس، أشهر جواسيس مكتب التحقيقات الفيدرالي، أعواما من حياته في الحرب الباردة (1947 - 1991)، في الوقت الذي كان كثيرون غيره يفعلون الشيء نفسه لمصلحة روسيا.
لكن تلك الصورة التي أغرت السينما العالمية لتقديمها في عشرات الأفلام، لم تعد موجودة، ولو عاش موروس الآن لأصبح عاطلا بالتأكيد، فوكالات الاستخبارات العالمية لم تعد في حاجة إلى "مخبرين"، إذ تكفيهم منصة تواصل اجتماعي يسيطرون عليها، ومن خلالها سيحصلون على ملايين المعلومات حول أي شعب يريدون، بداية من تاريخ ميلاد أفراد هذا الشعب، ووصولا إلى ماذا تناولوا اليوم من طعام، وما آخر مزحة يتداولونها.
بالتأكيد، لم يخطر في بال الطالب مارك زوكربيرج، وهو داخل قاعات هارفارد العريقة، أن 28 تشرين الأول (أكتوبر) 2003، يوم إطلاق فيسبوك لأول مرة، سيكون أيضا اليوم نفسه الذي ستبدأ فيه حرب باردة جديدة ستتضح آثارها بعد أعوام، فالمنصة التي أسست كوسيلة للتواصل بين أصدقاء مارك أصبح يستخدمها الآن بحسب آخر إحصائية في 2022، نحو 2.8 مليار مستخدم، وتحوي مئات الملايين من المعلومات، وهو ما راقبته جيدا وكالات الاستخبارات منتظرة جرس إنذار.
لكن جرس الإنذار لم يتأخر، خاصة بعد تأسيس تويتر في 2006 على يد الرباعي جاك دورسي، نوح جلاسي، بيز ستون، وإيفيان ويليامز، ومثل فيسبوك، حوى الآخر ملايين المعلومات عن المستخدمين، وفي 2011 حين كان للتطبيقين دور قوي في بعض الانتفاضات التي أطاحت ببعض الرؤساء، أضحت كل دولة تفكر على الأقل كيف تحمي نفسها، ولم يكن يخفى على أحد أن انتماء المنصتين إلى أمريكا، زاد من التوتر والخوف.
لذلك لم يكن غريبا، أن تبدأ المرحلة الدفاعية مبكرا بقيادة دول مثل الصين وإيران وكوريا الشمالية، حين حجبت بشكل رسمي تطبيق "فيسبوك" في 2016، تحت مزاعم تهديد الأمن القومي بحسب ما أفادت وقتها، فيما فرضت دول أخرى قيودا على الاستخدام، مثل روسيا التي تمكنت من مراقبة الكثير مما يجرى داخل الفضاء الأمريكي.
لكن ذلك لم يكن إلا خطوة تبعتها خطوات أشد شراسة، ففي 2018 كان عام الملاحقات القضائية بتهم تسريب بيانات العملاء، وهي خطوة وصفتها بعض التقارير الصحافية، ليس فقط لكشف ما يحدث داخل المنصات العملاقة، بل لإفقاد ثقة المواطنين بها، وهو ما تحقق حين اعترف مارك زوكربيرج في 2018، أن فيسبوك سرب بيانات 50 مليون مستخدم لمصلحة حملة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب، فضلا عن اتهامات أخرى ما زالت منظورة أمام المحاكم العالمية تتناول التهمة نفسها.
التمسك بمواقعك الدفاعية جيدا ثم عليك التقدم الحذر، قاعدة عسكرية ابتكرها القائد الإيطالي مونتجمري أثناء الحرب العالمية الثانية منتصف القرن الماضي، وجاءت الصين لتكررها في 2019، فبعد حجب "فيسبوك" وحماية نفسها قدر الإمكان من الأخطبوط الأمريكي، قررت التقدم خطوة، لكن من خلال منصة تلك المرة، تحوي ملايين المعلومات وتجعل الآخرين يخشونها، وهو ما تم ترجمته في "تيك توك" حين ظهرت للوجود، وأصبحت خلال أربعة أعوام فقط مستخدمة من قبل 800 مليون شخص حول العالم.
دخول الصين المفاجئ واشتعال الصراع بين روسيا وأمريكا، أدى بدوره إلى سخونة الحرب الباردة، وظهر ذلك جليا بعد دخول القوات الروسية إلى أوكرانيا، فبعد شهر واحد من الحرب، حجبت فيسبوك مواقع إخبارية رسمية للدولة القيصرية، وهو ما ردت عليه الأخيرة بتشكيل لجنة تحقيق تكون مهمتها رفع دعوى جنائية ضد شركة ميتا المالكة لـ"فيسبوك"، بتهمة الدعوة إلى التربص بالمواطنين الروس، كما انتهت اللجنة إلى حجب المنصة الأمريكية نهائيا داخل الأراضي الروسية.
لكن الحرب الأوكرانية لم تقتصر فقط على "فيسبوك"، فرغم أن حجب "تيليجرام" في روسيا تم في 2018، لكن في العام الماضي رفعت موسكو هذا الحظر في خطوة عدها البعض فشل الدولة في حجب التطبيق، فيما أشار آخرون إلى أن ذلك يعني أن التطبيق الذي أسسه مواطن روسي في الأساس هو بافيل دوروف، قد أصبح أداة طيعة في يد روسيا لتدخل بذلك الحرب الباردة بمنصة وصل عدد مستخدميها إلى نحو 800 مليون مستخدم.
هل كانت تصريحات استفزازية؟ كان ذلك هو السؤال في مطلع 2023، حين أعلن شو زي تشيو المدير التنفيذي لـ"تيك توك"، أن لديه أكثر من 150 مليون مستخدم نشط في الولايات المتحدة فقط، وهو ما دفع الكونجرس إلى عقد جلسة هاجم فيها شو بشكل قاس، بل أوضحت اللجنة أن بيانات المستخدمين في خطر وما يحدث الآن ليس إلا تهديدا للأمن القومي الأمريكي، خاصة بعد حادثة المنطاد الصيني الذي حلق فوق أراض أمريكية وأثار جدلا ومشادات بين البلدين.
لكن الصين تلك المرة لم تتخذ إجراءات دفاعية، بل ردت هي الأخرى، فبحسب صحيفة "ساوث مورنينج" الصينية، أقدمت بكين على إخضاع جميع منتجات رقائق ميكرون الأمريكية للفحص بسبب "مخاطر أمنية"، وفي الوقت الذي حظر فيه حلف شمال الأطلسي "الناتو" تطبيق تيك توك من أجهزة موظفيه. ووسط ذلك يتكون سؤال الآن، هل تتحول الحرب الباردة إلى ساخنة، تشترك فيها الأسلحة التقليدية وتذكر في التاريخ أنها حرب التطبيقات؟ أم ستفضل الدول تجنب فاتورة الحرب واستمرار الصراع في الفضاء الإلكتروني الذي استقبل أخيرا تطبيق "ليمون 8" الصيني، الذي يتبع الشركة نفسها المالكة لـ"تيك توك"، ووصفه الخبراء بأنه توأم "إنستجرام" وتم تحميله خمسة ملايين مرة حتى الآن في أمريكا وحدها؟