بين السياسة والتكنولوجيا .. الخيط الرفيع يتضاءل
يتضاءل الخيط الرفيع القائم بين السياسة والتكنولوجيا شيئا فشيئا، حتى صارت هذه الأخيرة جبهة من جبهات المواجهة ومسرحا للصراع بين الدول الكبرى، حتى قيل إن التكنولوجيا ستصبح لا محالة أقوى الأسلحة في الأعوام المقبلة، فامتلاكها مرادف للسيطرة والسطوة والقوة والنفوذ، لأجل ذلك بات الصراع اليوم على أشده بين الصين وعدد من الدول الغربية حول تطبيق تيك توك الصيني الشهير.
قررت الولايات المتحدة ومن بعدها الاتحاد الأوروبي ثم كندا وأخيرا المملكة المتحدة، حظر استعمال تطبيق تيك توك على الهواتف والأجهزة الإلكترونية الحكومية. وقد تذهب لندن أبعد من ذلك، بحديث أكثر من مسؤول أمني بريطاني عن إمكانية تمديد حظر التطبيق ليسري على عموم تراب المملكة المتحدة. بعدما أضحت أي تكنولوجيا ترد من الصين موضع شك وريبة من جانب البريطانيين، مع توارد معطيات، منذ 2017، تفيد باستخدام بكين شركات صينية لاختراق المجال السياسي في بريطانيا.
تعود القضية إلى الواجهة الآن على اعتبار أنها ليست بالأمر الجديد، فبداياتها كانت مع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب، إبان الحرب التجارية بين واشنطن وبكين، حين قرر في 2020 حظر تطبيق تيك توك، إذا فشلت "مايكروسوفت" أو شركة أمريكية أخرى في شرائه، عادا أنه يمثل "تهديدا على الأمن القومي الأمريكي"، لكن القرار حينها لم يدخل حيز التنفيذ. بعد ثلاثة أعوام، سيواصل الرئيس جو بايدن، إتمام ما بدأه سلفه، فالمسألة من الموضوعات المجمع عليها من قبل الديمقراطيين والجمهوريين معا.
يخاف المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة من تداعيات تطبيق تيك توك الذي ظهر في 2016، لأول مرة في الصين، وما لبث أن انتشر سريعا في أنحاء العالم، خاصة بين فئة الشباب، كشبكة اجتماعية مملوكة لشركة بايت دانس الصينية، أسس على يدي مبرمج صيني يدعى تشانج يي مينج، بدأ حياته المهنية في شركة مايكروسوفت، تستخدم لمشاركة مقاطع مرئية قصيرة، تراوح مدتها بين ثلاث ثوان إلى عشر دقائق، متنوعة الموضوعات ومرحة المضامين حول الرقص والكوميديا والتعليم... ولا سيما بعد تحوله، في غضون خمسة أعوام، إلى أكثر الشبكات إدمانا من المراهقين، بعد تجاوز عدد مستخدميه 1،5 مليار شخص حول العالم. يمثل الأمريكيون منهم 10 في المائة، ما يعادل بالأرقام 150 مليون مواطن أمريكي، وقوة تعادل 25 في المائة من إجمالي المشاهدات عالميا. هكذا وفي وقت قياسي، أضحى واحد من كل ثلاثة أمريكيين مستعملا لتطبيق وتكنولوجيا خارج السيطرة الأمريكية، يكتسح وينافس منصات أمريكية المنشأ، مثل، فيسبوك وتويتر وإنستجرام ويوتيوب.
حديث واشنطن عن تهديد الأمن القومي ليس مزايدة في القول، من وجهة نظر عدد من المراقبين، فهذا التطبيق سلاح تكنولوجي ناعم في يد الصين بإمكانها استعماله متى وكيف تشاء لاستهداف وتوجيه الرأي العام، خاصة الشباب منهم، في معظم الدول الغربية "1 / 3 من الأمريكيين". وهذا ما حدث فعلا، مع اشتداد وطأة الصراع الروسي الأوكراني، بعد تراجع فيديوهات الرقص والفكاهة والمرح لمصلحة مقاطع مصورة من ميدان الحرب لجنود وأسلحة ودبابات وصواريخ روسية.. في حرب دعائية غير مسبوقة تتنافس في جذب انتباه أزيد من مليار مستخدم في العالم.
لا يمتلك الغربيون الشجاعة للاعتراف بمثل هذه الحقائق، لذلك فضلوا استخدام ورقة حماية بيانات مواطني الدول الغربية من أي تهديد أمني خارجي. فتطبيق تيك توك، حسب السردية الغربية، قد يسلم بيانات المستخدمين إلى السلطات الصينية. فضلا عن كون الشركة المالكة للمنصة، وفق مزاعم المسؤولين الأمريكيين، خاضعة نظريا لسيطرة الحزب الشيوعي الصيني.
ادعاءات تبقى بلا أسانيد حسب الرواية الصينية، بدءا من حيازة البيانات التي تبقى قاعدة تشترك فيها جميع شركات التكنولوجيا، بما في ذلك الشركات الأمريكية. ومرورا بتزويد بكين ببيانات المستخدمين الغربيين، بتأكيد أصحاب المنصة أن البيانات لا تخزن في الصين، وإنما في الولايات المتحدة وسنغافورة حيث توجد خوادم التخزين. درءا لكل توجس وإمعانا في مزيد من الشفافية، عرضت الشركة على الدول الغربية نقل هذه الخوادم إلى جهة ثالثة تحظى بالمقبولية لدى الجميع. وانتهاء بجنسية الشركة الأم بايت دانس التي صارت دولية، إذ لا تتعدى النسبة المملوكة للصينيين 20 في المائة فقط. علاوة على أن الشركة تديرها فرق تنفيذية في لويس أنجليس وسنغافورة، مقريها الرئيسين، دون أن تتوافر على مكتب في الصين.
توضيحات لم تغير منظور الغربيين إلى هذه المنصة، بل على النقيض من ذلك زاد الترويج لها، فعلى سبيل المثال تحدث نائب بلجيكي، الشهر الماضي، في البرلمان الأوروبي معلنا أن الأوروبيين "بدأوا يدركون أن تيك توك ليس مجرد تطبيق للتواصل، أو تبادل مقاطع الفيديو أو التسلية، بل يجمع تيك توك بيانات مواطنينا". وفي الضفة الأخرى، كانت حادثة المنطاد فرصة لإطلاق رصاصة الرحمة على التطبيق داخل الولايات المتحدة، حيث غرد براندان كار، عضو هيئة الاتصالات الفيدرالية الأمريكية، قائلا، "لا بد أن يكون هذا هو المسمار الأخير في نعش الفكرة القائلة إن بإمكان الولايات المتحدة الثقة بتيك توك". يوشك تطبيق تيك توك على التحول إلى حصان طروادة، يمكن تحويله إلى سلاح قوي في أوقات الصراع. فالمنصة أداة يستطيع من خلالها الحزب الشيوعي الصيني توجيه 1.5 مليار شخص في العالم، ما يشكل تهديدا واضحا ومباشرا على الأمن القومي للدول الغربية، ومؤشرا على قدرة بكين التنافسية في الحرب التكنولوجية.
على هذا الأساس، يبقى الحل المثالي بالنسبة إلى واشنطن وحلفائها واحدا من الخيارين، إما السطوة على هذا الابتكار الصيني، بضمه إلى بقية المنصات الخاضعة للقوانين الأمريكية، وإما العمل على تحصين مواطنيها وحمايتهم من تأثير خوارزميات "شيوعية"، تنذر بفقدان الولايات المتحدة السيطرة على العالم.