ماكرون في الصين .. بحثا عن زعامة أوروبا
قام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مطلع الشهر الجاري، بثالث زيارة رسمية إلى جمهورية الصين الشعبية، منذ دخوله قصر الإليزيه. لكن هذه الأخيرة تبقى استثنائية، بالنظر إلى توقيت وسياق حدوثها، فهدير الحرب الروسية الأوكرانية أخذ في التصاعد، ومنسوب التوتر متزايد في شبه جزيرة تايوان، ومضي الولايات المتحدة في حث حلفائها على نهج سياسة تطويق الصين... معطيات تعقد مهمة زائر بكين في "التوقيت الخاطئ".
ترفض الرئاسة الفرنسية هذا المنظور عادة أن إحياء أمجاد الدبلوماسية الفرنسية، بعودتها إلى مسرح الأحداث العالمي من مرامي الرئيس إيمانويل ماكرون. ما يفسر جولاته المستمرة والمكثفة في أصقاع الأرض، ما بين الشرق والغرب والجنوب "روسيا، أمريكيا، الصين، إفريقيا..."، فالعالم بحاحة ماسة إلى صوت ثالث بمقدوره أن يقوم بأدوار الوساطة والتهدئة، في وقت تشهد مناطق عدة في العالم قرعا أقوى لطبول الحرب.
مهما حاولت باريس لعب هذه الأدوار تظل مقيدة بالمواقف والتراكمات، فالاصطفاف جنب الولايات المتحدة في المعسكر الغربي، والدور المحوري في حلف الناتو "ثاني قوة عسكرية في الحلف"، فضلا عن الانحياز الفرنسي الظاهر في أكثر من قضية إقليمية أو دولية. كل ذلك يحول دون الاضطلاع بهذه المهمة، رغم مساعي إيمانويل ماكرون نحو تسويق ذلك، باصطحابه أورسولا فون دير لايين رئيسة المفوضية الأوروبية إلى بكين، في إشارة قوية إلى أنه المتحدث الأول باسم الاتحاد الأوروبي مع الصين.
بكين .. نعم للاقتصاد لا للسياسة
صرح ماكرون بأن رحلته نحو الصين بغرض طلب المساعدة من نظيره الصيني لحل الأزمة في أوكرانيا، وذلك عائد بحسبه إلى مكانة وقدرة الصين على التأثير في جميع أطراف النزاع، ولا سميا أن الدبلوماسية الصينية بقيادة الرئيس شي قد نجحت أخيرا في عقد اتفاق مصالحة تاريخي بين السعودية وإيران. فضلا عن كون بكين صاحبة مبادرة في شباط (فبراير) لإنهاء الحرب بين الطرفين، حظيت بتقدير كثير من القوى الدولية، ما حدا بالضيف لمخاطبة المضيف أمام الصحافيين قائلا، "أعلم أنه يمكنني الاعتماد عليك لإعادة روسيا إلى رشدها والجميع إلى طاولة المفاوضات".
وفي الكواليس راجت أحاديث عن رغبة ملحة لدى الزعيم الفرنسي والمسؤولة الأوروبية، عن منع بكين من تقديم أي دعم عسكري لموسكو، لأن حدوث ذلك يعني حسم المعركة لمصلحة الجانب الروسي. طموح يبقى بلا أسانيد واقعية تعززه، فباريس في نظر الصينيين "وحش بلا مخالب"، لافتقادها إلى أوراق لممارسة الضغط. فلا يعقل أن تخضع دولة تمثل 22 في المائة من الناتج الإجمالي المحلي العالمي للضغط من دولة بوزن اقتصادي أقل منها 20 ضعفا.
بدا الأمر واضحا من حصاد الزيارة، حيث غادر الضيفان بكين خاليا الوفاض، فلم يحصلا على أي التزام أو ضمانات أو حتى تعهد لإنهاء الحرب أو على حتى الضغط على روسيا، رغم التنازلات المتلاحقة التي وصفها البعض بانبطاحات الرئيس ماكرون التي حولت الزيارة إلى ما يشبه "انقلابا في العلاقات العامة لمصلحة الرئيس الصيني، وإلى كارثة في السياسة الخارجية بالنسبة إلى أوروبا".
تفاعل الصينيين مع الشق الاقتصادي في الزيارة، تماشيا مع مصالحهم وليس حبا في سواد أعين ماكرون، أنقدها من الفشل الذريع. فقد كانت مناسبة أكدوا فيها لواشنطن انهيار سياسية الفصل الاقتصادي التي تدفع بها سبيلا لإعادة التنين إلى قمقمه. وهذا ما جاء على لسان الضيف بصريح العبارة حين قال، "أسوأ شيء هو اعتقاد أننا نحن الأوروبيين يجب أن نكون تبعيين في هذا الموضوع".
عكس المواقف السياسية، صنع عدم اليقين الاقتصادي قواسم مشتركة بين الطرفين، أثمر صفقات تجارية كبرى بما في ذلك بيع 160 طائرة من طراز إيرباص و150 طائرة من نوع نيو. فضلا عن افتتاح مصنع خاص بشركة إيرباص قرب العاصمة بكين، وهو ما عده مراقبون استغلالا فرنسيا للتراجع الأمريكي عن افتتاح مصنع لشركة بوينج بسبب التوترات مع بكين. ما يرجح الزيادة من حجم المبادلات التجارية بين الطرفين التي ارتفعت 15 في المائة خلال الأعوام الخمسة الماضية.
باريس .. بحثا عن استراتيجية مستقلة
تبدو فرنسا جادة في سعيها نحو شق مسارها الخاص في التعاطي مع الصين، بعيدا عن الرؤية الأمريكية التي تضع الصين وروسيا معا في سلة واحدة. فباريس مقتنعة تماما بأن مثل هذا الموقف يدفع الطرفين نحو مزيد من التقارب والانسجام. فضلا عن كونها ترى بكين شريكا وحتى منافسا تجاريا يمكن التعاون معه، عكس المنظور الأمريكي الذي يعده عدوا ومصدر تهديد مباشر.
على هذا الأساس، بسط ماكرون وجهة نظره من الصين، بجرأة أثارت حفيظة جهات عديدة داخل وخارج الاتحاد الأوروبي، منبها إلى أن أكبر خطر يواجه أوروبا هو أنها "عالقة في أزمات ليست من أزماتها، ما يمنعها من بناء استقلاليتها الاستراتيجية". وأضاف بصيغة أكثر بلاغة ووضوحا "نحن الأوروبيين بحاجة إلى أن نستيقظ. أولويتنا ليس التكيف مع أجندة الآخرين في جميع مناطق العالم".
يحاول ماكرون استعادة الإرث الفرنسي في الاختلاف أو التميز، فقد سبق للجنرال الفرنسي شارل ديجول أن خالف الولايات المتحدة، حين أبدى استعداده للتقارب مع الاتحاد السوفياتي، بعد الحرب العالمية الثانية. وتكرر الأمر ذاته مع رئيس فرنسي آخر، إنه جاك شيراك الذي رفض وبشدة مسايرة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في عدوانهما على العراق. بذلك يكون الخيار أو الطريق الثالث تقليدا فرنسيا أصيلا، زمن الشدائد والأزمات في العالم، قام ماكرون بإحيائه وليس من بنات أفكاره مطلقا.
مهما يكن الأمر، على إدارة ماكرون أن تدرك أن فرنسا ديجول وشيراك في الماضي، غير فرنسا الحاضر مع ماكرون، فالأزمات الداخلية لا تهدأ إلا لتشتعل من جديد بقوة أكبر. وقس على ذلك بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي الذي فقد مستواه الصناعي والتجاري ما انعكس بوضوح على قوته التفاوضية، حتى أضحى مجرد تابع أو ملحق بواشنطن. ما حدا بالرئيس إلى مطالبة الأوروبيين بالخروج من "منطق الكتلة في مقابل الكتلة" مشددا على ضرورة ألا تكون أوروبا تابعا لواشنطن ولا بكين.
جر هذا الكلام على الزعيم الفرنسي وابلا من الانتقادات من حلفائه الأوروبيين، ممن عدوا حديث ماكرون "هدية مجاملة" للرئيس الصيني دون أن يقبض أي مقابل. وبلغ الأمر بأصوات في النادي الأوروبي درجة اتهام الرجل ب "العمى الجيوسياسي"، رافضين أي حديث له باسم أوروبا فـ"ماكرون يتحدث نيابة عن ماكرون". هذا في العلن، خشية تراجع الولايات المتحدة عن دورها كأكبر داعم لأوكرانيا في مواجهة القوات الروسية، أما في السر فكثير من الأوروبيين مقتنعون بحاجة أوروبا الماسة إلى "استراتيجية مستقلة"، لكن خلافهم مع الرجل في سياق وتوقيت إعلان ذلك فقط.
يكرر ماكرون في بكين سيناريو موسكو، فالزيارة الأخيرة إلى الصين خدمتها أكثر من فرنسا، ما يجعل حلم الاستفراد بقيادة أوروبا، في غياب شخصية قوية في برلين، بعيدا عن المظلة الأمريكية في مهب الريح، فتحركات السياسي الفرنسي الخارجية بحثا عن حصاد تعيد به أمجاد الدبلوماسية الفرنسية لا تزال حتى الآن بلا طائل.