دوافع التخلي عن الدولار .. فتش عن "الذهب" والسياسة
الجميع يتابع القتال الشرس، مانشيتات الصحف تخرج يوميا كاشفة الحصون التي سقطت، البلاد التي تم استردادها، وماذا يدور في عقول الجنرالات من خطط، وفي الغرف المغلقة في "10 داوننج ستريت" كانت تعقد الصفقات، وحدها أمريكا كانت صاحبة حسبة مختلفة، فكل طلقة تعني أموالا أكثر، واستنزاف خزينة الدول المتصارعة، وانهيارا وشيكا لأكبر اقتصادات أوروبا، هكذا كان المشهد أثناء الحرب العالمية الثانية التي دخلتها واشنطن متأخرة، وتحديدا في 1942 وتمكنت من قلب الموازين العسكرية.
لكن الأهم، أن رؤية البيت الأبيض كانت ثاقبة، فبعد حربين عالميتين أضحت الدول العظمى وقتها مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا وحتى روسيا صاحبة خزينة فارغة، واقتصاد منهار، وملايين المصانع المدمرة، ولم يكن هناك أحد قادر على مد يد العون سوى أمريكا التي انتظرت تلك اللحظة طويلا لإيجاد نظام عالمي جديد حمل آنذاك شعار "أمريكا العظيمة"، وفي بريتون وسط غابات نيوهامبشر التي تترقب صيف 1944، كان هناك 733 مندوبا ممثلين لـ44 دولة اجتمعوا بناء على دعوة واشنطن، وانتهى الاجتماع باتفاقية "بريتون وودز" التي نصت على ثلاثة بنود، أولهم تأسيس صندوق النقد الدولي. ثانيا، إنشاء البنك الدولي للإنشاء والتعمير. ثالثا اعتماد الدولار كعملة بديلة للذهب في العالم، والقرار الأخير كان هو الأخطر.
وللتوضيح، فقبل هذا الاتفاق كان الاحتياطي النقدي لأي دولة هو الذهب، أي من حق أي دولة طباعة الأوراق الشرائية التي تدعى -البنكنوت - طالما لديها ما يوازيه من الذهب، أما بعد تلك الاتفاقية فكان يكفي أن يكون معك الدولارات، ومن تلك اللحظة تحديدا، سيطرت الورقة الخضراء التي بدأ التعامل بها بعد إقرار الدستور الأمريكي 1792، على عرش العملات، فمن ناحية هي عملة لها قيمة حقيقية، من ناحية أخرى، ملكت أمريكا وقتها ثلثي حجم الذهب العالمي، أما بعض المؤرخين الاقتصاديين مثل هارولد إينيس فأوضح أن أوروبا لم تكن أمامها سوى القبول، لأنها كانت تعتمد كليا على أمريكا في إعادة بناء نفسها.
لكن أوروبا لم تستسلم طويلا، ففي 1946، أي بعد عامين فقط، كانت أولى المعارك ضد الورقة الخضراء يقودها رئيس الوزراء البريطاني حينها وينستون تشرشل، حين اقترح عملة موحدة لبعض الدول الأوروبية، لكنها بقيت فكرة لحين 1971، حين كشف الرئيس الأمريكي وقتها ريتشارد نيكسون، أن أمريكا أنفقت ملايين الدولارات على الحرب الفيتنامية دون أن يكون هناك غطاء من الذهب، وهذا في عرف الاقتصاديين يعني أن البيت الأبيض بادل سلع باهظة بأوراق ليس لها قيمة، وهو ما بات يعرف في التاريخ بـ"صدمة نيكسون".
وهو ما نتج عنه في 1974 إطلاق عملة افتراضية لأوروبا اقتصرت في البداية على التعاملات المصرفية بين الدول الأعضاء، وفي 1999 أطلق على تلك العملة اسم "يورو" لتصبح بعد عقدين من الزمن أشرس منافسي الدولار، وتمثل 20 في المائة من احتياطي النقد العالمي بحسب آخر إحصاء للاتحاد الأوروبي في 2021.
تلك المعركة التي استردت فيها أوروبا بعض نفوذها، لم تكن سوى البداية، فبجانب 19 دولة تستخدم اليورو كعملة رسمية لها الآن، كانت هناك الصين التي تمثل 17 في المائة من سكان العالم، وثاني أقوى اقتصاد، ورغم أنها لم تستغن عن الورقة الخضراء في التجارة الخارجية، لكنها غير معتمدة عليه داخليا في ظل استقرار اليوان الصيني، وكذلك الحال عند روسيا التي تمثل 2 في المائة من سكان العالم، وتاسع أقوى اقتصاد، إذ تعتمد بشكل كبير على عملتها الرسمية "الروبل" رغم استخدامها للدولار أيضا في التعاملات التجارية.
تلك العوامل بحسب المؤرخ الاقتصادي هارولد إينيس، أضعفت العملة الأمريكية بالنظر إلى ما كانت عليه قبل 1971، لكنه ظل متماسكا لعدة أسباب منها أن معظم دول العالم اعتمدت عليه كركيزة أساسية في اقتصادها، وحتى بعد أن صارت لتلك الدول عملات موحدة أخرى كاليورو مثلا، كان من الصعب الاستغناء عن الدولار، لأن ذلك يعني إعادة النظام الاقتصادي العالمي من جديد وهذا فاتورته باهظة، إضافة إلى أن السوق الأمريكية من أكبر الأسواق العالمية، وبالتالي فالحاجة إلى الورقة الخضراء ما زالت قائمة طالما الاقتصاد الأمريكي قوي.
فتش عن السياسة، جملة يمكن من خلالها معرفة الكثير، فالدول التي لديها علاقات متوترة مع أمريكا كانت دوما تبحث عن عملة موحدة تخلصها من سطوة الدولار، يدلل على ذلك دول أمريكا اللاتينية، ففي شباط (فبراير) الماضي دعا الرئيس البرازيلي اليساري لولا دا سيلفا إلى إطلاق عملة مشتركة اسمها "سور"، تجمع البرازيل والأرجنتين وتشكل اتحادا مستقبليا، خاصة أن اقتصاد أمريكا اللاتينية يمثل 5 في المائة من الناتج المحلي العالمي، فيما أعلنت فنزويلا رغبتها في الانضمام إلى هذا التحالف الذي قد يتسع لدول أخرى بحسب صحيفة "الأكونوميستا" الإسبانية.
ومن أوروبا إلى آسيا، ازدادت الحروب الشرسة ضد الدولار بعد أن أبدت دول في القارة الصفراء رغبتها في تعاملات بعيدة عن الورقة الخضراء، مثل التعاون الإماراتي الهندي لاستخدام الروبية الهندية في التجارة غير النفطية، وكذلك الصين التي تفكر في تسوية تجارتها غير النفطية بالعملات المحلية، فيما اقترحت مجموعة دول بريكس عملة احتياطية جديدة تستند إلى العملات الروسية والصينية والبرازيلية، وتتويج بنك بريكس بديلا عن صندوق النقد الدولي.
كل ذلك أدى لما أشار إليه صندوق النقد الدولي من أن عهد الدولار آخذ في التراجع، كما ذكرت مجلة "أوراسيا" أن البنوك المركزية خصوصا في ظل الأزمات الحالية، لجأت إلى شراء الذهب كاحتياطي لها بدلا من العملة الأمريكية، وقد سجل شراء المعدن الأصفر أعلى معدل في 2022، فضلا عن فرض بوتين التعامل بالروبل الروسي مع الدول غير الصديقة بعد الحرب الأوكرانية، والسؤال الآن، بعد أن أعلنت بورصة شنغهاي لأول مرة تسعير شحنة غاز إماراتية بالعملة الصينية في الوقت الذي اتفقت فيه البرازيل على التبادل التجاري باليوان السبت، فهل يصمد الدولار مستندا على قاعدة "اقتصاد أميركا" القوي، أم ستحتاج الأمم إلى إرسال مندوبيها مرة أخرى لكن لن تكون الوجهة طبعا إلى بريتون بل إلى مدن أخرى ستشهد إنهاء هيمنة أشهر عملة ورقية في التاريخ.. ربما قريبا خاصة أن الرئيس البرازيلي داسيلفا يقول، أسأل نفسي كل ليلة لماذا الدول مجبرة على استخدام الدولار؟