هل بدأ انفجار الفقاعة العقارية العالمية؟
شهدت أغلب الأسواق العقارية وأسواق الإسكان تحديدا حول العالم، خلال الفترة من تفشي الجائحة العالمية لكوفيد- 19 حتى ما قبل رفع معدلات الفائدة "أقل من أربعة أعوام"، موجة ارتفاعات قياسية مدفوعة بارتفاع التيسير الكمي وانخفاض معدلات الفائدة وزيادة الائتمان العقاري بتريليونات الدولارات، ووصلت نسب الارتفاع خلال تلك الفترة إلى أعلى من 86.1 في المائة وفق بيانات بنك التسويات الدولية BIS، وتناهز هذه النسب القياسية لارتفاعات أسعار العقارات والمساكن خلال أقل من أربعة أعوام فقط، نحو 60.0 في المائة من الارتفاعات القياسية التي سجلتها من بعد الأزمة المالية العالمية 2008، التي بلغت في أقصاها نحو 145 في المائة خلال أقل من تسعة أعوام متتالية.
ووفق بيانات بنك التسويات الدولية BIS، فقد وصل إجمالي الارتفاعات في أسعار العقارات والمساكن خلال الفترة من بعد الأزمة المالية العالمية في 2008، حتى ما قبل بدء البنوك المركزية حول العالم بأسرع عمليات لرفع معدل الفائدة منذ منتصف آذار (مارس) العام الماضي، إلى مستويات قياسية غير مسبوقة تجاوزت 171 في المائة، وتؤكد المقارنة بين النمو القياسي للأسعار ونمو متوسط الدخل للمستهلكين خلال الفترة، ووصولها إلى مضاعفات ناهزت أربع مرات كما حدث في الولايات المتحدة، على تشكل فقاعة عقارية عالمية شملت أغلب الاقتصادات حول العالم، بدأت تصدعاتها المبكرة من النصف الثاني في 2021 في الصين، مع تعثر كبرى شركات التطوير العقاري أمام البنوك الدائنة، تحت ضغوط التضخم الكبير في أسعار العقارات، الذي قابله إحجام عن الشراء من شرائح واسعة من المستهلكين، سرعان ما اتسعت الدائرة في النصف الثاني من 2022 لتمتد إلى أسواق الإسكان في أغلب الاقتصادات حول العالم، بدءا من الولايات المتحدة ومنطقة اليورو والشرق الأوسط، بدأت بتراجعات حادة في مبيعات العقارات تزامنا مع الارتفاع المطرد لمعدلات الفائدة "ارتفاع تكلفة الرهون العقارية"، واستمرت ضغوطها الشديدة على الأسواق حتى تاريخه، وزاد منها ارتفاع التوقعات باستمرار البنوك المركزية في عمليات رفع معدل الفائدة لكبح التضخم المرتفع، وأن حقبة الفائدة المرتفعة قد تمتد إلى نهاية 2024 حتى تتأكد البنوك المركزية من تراجع التضخم إلى أدنى من مستوياته المستهدفة.
الآن، "أولا"، ما الفقاعة العقارية التي اتسع الحديث عنها خلال الفترة الراهنة؟ "ثانيا"، ما أهم وأبرز الأسباب التي أدت إلى تشكل الفقاعة العقارية؟ يمكن الإجابة باختصار شديد عن السؤالين السابقين كما يلي. بالنسبة إلى الأول: فإن الفقاعة العقارية تمثل حدوث طفرة كبيرة جدا في أسعار الأراضي والعقارات خلال فترة/ أعوام قصيرة جدا، وتتسم في الأغلب بكونها مؤقتة لأسباب مختلفة سيأتي شرحها في الجزء التالي، كما تتسم تلك الارتفاعات القياسية في أسعار الأراضي والعقارات بكونها غير منطقية أو معقولة وفق أغلب المؤشرات الاقتصادية.
وبالنسبة إلى إجابة السؤال الثاني حول أبرز الأسباب التي أدت إلى تشكل الفقاعة العقارية، وهي أيضا الأسباب ذاتها التي إذا زالت أو عكست اتجاهها أدت إلى انفجار تلك الفقاعة! وفي حال اجتمعت تلك الأسباب في الفترة نفسها في أي سوق عقارية، فإن تشكل الفقاعة سيكون كبيرا جدا، والعكس صحيح أيضا في حال اختفائها أو زوالها مجتمعة سيكون انفجار الفقاعة كبيرا ومؤلما جدا. تبدأ تلك المسببات من، "أولا"، الزيادة المطردة في جانب الطلب مقابل بطء أو محدودية جانب العرض، وكلما اتسعت الفجوة بين الطلب من جانب، والعرض من جانب آخر تصاعدت الأسعار بصورة مطردة لا مجال لإيقافها، إلا بتوازن جانبي الطلب والعرض، الذي متى تحقق انخفضت الأسعار ودخلت في مسار هابط، وعادة ما تقترن تلك التطورات العكسية بدخول السوق في حالة من الركود وانخفاض الطلب وعدم قدرة أغلب المستهلكين على الشراء، ما سيؤدي في نهاية المطاف إلى انفجار تلك الفقاعة. "ثانيا"، يؤدي ارتفاع التعاملات بهدف المضاربة ودخول شريحة كبيرة من المضاربين في السوق، التي تتسم تعاملاتهم بزيادة شراء الأراضي والعقارات ومن ثم بيعها لاحقا بأسعار أعلى، إلى زيادة قياسية في جانب الطلب، لتنتج عنه ارتفاعات قياسية لأسعار تلك الأصول، وما إن يصل تضخمها الحاد إلى حافة الانهيار في الأسعار، واتساع قناعة المضاربين بذلك التضخم وارتفاع درجات المخاطرة، وصعوبة استمرار الارتفاع أكثر مما وصلت إليه الأسعار، يبدأ المضاربون بالتوقف عن الشراء والمغامرة، ما سيؤدي إلى زيادة احتمالات انفجار تلك الفقاعة بصورة أكبر.
"ثالثا"، أيضا من الأسباب التي تؤدي إلى تشكل الفقاعة العقارية، قلة توافر العقارات الجاهزة لتلبية الطلب المتنامي، نظرا إلى ما تتطلبه من فترة طويلة لأجل عمليات التطوير والتشييد ومن ثم البيع، ما يؤدي لاحقا إلى تشكل فقاعة أسعار العقارات، وفي فترة لاحقة مع الزيادة المطردة للعقارات، التي وصلت إلى ذروتها السعرية، سرعان ما سيؤدي ذلك إلى تراجع الأسعار بمعدلات متسارعة إلى أن تستقر عند مستوياتها العادلة. "رابعا"، يؤدي ضعف أو غياب تنظيم سوق التمويل العقاري أيضا إلى تشكل الفقاعة العقارية، وما يمثله من قناة عملاقة لمزيد من تدفقات السيولة على السوق، ويزيد من زخمها تدني معدلات الفائدة، وفي حال تمت إجراءات تستهدف تنظيما شاملا ودقيقا للقطاع التمويلي، يتضمن تشديدا على مستوى الضوابط الائتمانية، والتقييم العادل للأصول العقارية، فإن من شأنه أن يؤدي إلى انفجار الفقاعة العقارية، وتصحيح الأسعار بما يتواءم مع الإجراءات الجديدة للقطاع التمويلي. "خامسا"، تدني معدل الفائدة "تكلفة الرهن العقاري"، الذي يسهم بدرجة كبيرة في زيادة توافر السيولة لدى المستهلكين، ويزيد بدوره من حجم الطلب الذي يدفع الأسعار نحو الارتفاع، واستمراره بمعدلات متسارعة ستؤدي في نهاية المطاف إلى تشكل فقاعة الأسعار، وفي حال حدث العكس، بارتفاع معدل الفائدة بوتيرة متسارعة كما شهدته الأسواق منذ مطلع الربع الثاني 2022 حتى تاريخه، فهذا بالتأكيد سيزيد من احتمالات انفجار فقاعة الأسعار.
يشكل توارد كثير من التقارير والبيانات حول الأسواق العقارية في أغلب الدول خلال الفترة الراهنة، التي تتحدث عن مزيد من الركود في مبيعات العقارات، المقترن بارتفاع تكلفة الرهون العقارية إلى أعلى مستوياتها خلال أكثر من عقدين من الزمن، وتشدد البنوك المركزية تجاه السيولة النقدية في الأسواق والاقتصادات، وزيادة حالات تعثر المستهلكين والمستثمرين على حد سواء أمام البنوك والمؤسسات الدائنة، وصولا إلى قراءة أحدث بيانات بنك التسويات الدولية BIS، التي تؤكد دخول أسعار العقارات السكنية في مسارات تصحيح بدءا من الربع الرابع 2022، كل هذا يشكل إطارا عاما لرؤية واقع ومستقبل الأسواق العقارية حول العالم، يختلف بدرجة كبيرة عما شهدته من بعد الأزمة المالية العالمية 2008 إلى ما قبل قيام البنوك المركزية برفع معدل الفائدة بتلك الوتيرة المتسارعة، مؤديا في محصلته النهائية وبمزيد من الحذر والترقب إلى طرح سؤال "عنوان المقال".