درس السلام .. من الصعب تكوين صداقة لكن الشراكة ممكنة
قبل 25 عاما، أبرم توني بلير، رئيس وزراء المملكة المتحدة الأسبق، والرئيس التنفيذي لمعهد توني بلير للتغيير العالمي مع رئيس الوزراء الأيرلندي بيرتي أهيرن، ورئيس الولايات المتحدة بـل كلينتون، وزعماء الأحزاب السياسية الأربعة الرئيسة في أيرلندا الشمالية، ما أصبح يـعـرف بمسمى "اتفاق الجمعة العظيمة". أدى هذا الاتفاق بحسب ما يكتبه بلير نفسه إلى حل النزاع الذي تسبب في مقتل الآلاف، فضلا عن قدر غير محدود من الأحزان والدمار لعقود، أو ربما لقرون من الزمن.
كان السلام، مثله كمثل المؤسسات السياسية التي نشأت عن اتفاق الجمعة العظيمة، منقوصا وهشا، ولا يزال على هذا الحال. لكن مقارنة أيرلندا الشمالية اليوم بما كانت عليه قبل ربع قرن، يصبح بوسعنا شرعيا أن نعد ما تحقق تحولا حقيقيا. فقد صـمـد السلام، وتضاعف حجم الاقتصاد، وتحولت بلفاست، المدينة التي اعتادت شوارعها على الأسلاك الشائكة والدوريات العسكرية، إلى مدينة أوروبية مزدهرة تنعم الآن بقطاع تكنولوجي مزدهر وحياة صاخبة.
لدينا إذن من الأسباب ما يبرر الاحتفال الـحـذر بهذه الذكرى السنوية. من الصعب أن نفكر في عملية سلام أخرى ناجحة إلى هذا الحد حقا في التاريخ الحديث.
كثيرا ما أسأل، يضيف بلير، ما إذا كان اتفاق الجمعة العظيمة ينطوي على دروس يـستفاد منها في حل النزاعات في أماكن أخرى من العالـم. الحق أن كل صراع فريد من نوعه، فالصراعات تختلف باختلاف القضية، والمدة، والدعم الخارجي، وعدد كبير من عوامل أخرى. مع ذلك، يمكننا تمييز بعض الدروس الـمسـتـحـقة.
أولا، لن يتسنى للسلام أن يضرب بجذور قوية في الأرض في غياب إطار متفق عليه يعده الجانبان عادلا في مضمونه. في حالة أيرلندا الشمالية، كان الجزء الأساسي من اتفاق الجمعة العظيمة ما يسمى مبدأ القبول، يتعين على أولئك الذين يريدون أيرلندا الموحدة أن يقبلوا ضرورة أن يظل الشمال جزءا من المملكة المتحدة ما دامت الأغلبية هناك راغبة في ذلك. كان هذا تنازلا كبيرا لمصلحة الاتحاديين في أيرلندا الشمالية.
في المقابل، وافق الاتحاديون على مبدأ المعاملة المتساوية والعادلة للطائفة القومية ذات الأغلبية الكاثوليكية الرومانية، والذي استند إلى مؤسسات جديدة في مجالات مثل الشرطة والعدالة، والاعتراف بالطموح القومي إلى وحدة أيرلندا، من خلال التعاون مع الجمهورية الأيرلندية.
لكن عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية المحتضرة، التي تقوم على حل الدولتين المزعوم، تؤكد أن الإطار وحده لا يكفي. ثانيا، بناء على ذلك، تحتاج أي عملية سلام إلى اهتمام مستمر من قـبـل كل الأطراف المعنية. والإطار المتفق عليه هو مجرد بداية. فهو يـعـد خريطة الطريق، لكنه ليس الوجهة والمقصد.
إن تحقيق السلام يتطلب الوقت والصبر والإبداع والعزيمة الدؤوبة. وأي عملية سلام هي كذلك على وجه التحديد، عملية وليست حدثا. وعلى هذا فقد أمضينا أعواما طويلة ـ تسعة أعوام في المجمل ـ في التنفيذ، في ظل عدد كبير من الأزمات والنكسات والعقبات على طول الطريق. وكانت أي منها لتتسبب في إيقاف العملية لولا إصرارنا وحرصنا على معالجتها.
ثالثا، لا يجوز للمتفاوضين أن يخشوا طلب المساعدة الخارجية. كانوا يقولون، "لا أحد يفهم النزاع الدائر بيننا حقا مثلما نفهمه نحن". هذا صحيح، لكن في بعض الأحيان قد يكون في عدم فهم النزاع على النحو الذي يفهمونه به المفتاح إلى الحل. جاءت التدخلات من جانب كلينتون والسيناتور الأمريكي جورج ميتشل، والزيارة اللاحقة لأيرلندا الشمالية والدعم الذي قدمه الرئيس جورج دبليو بوش، عند نقاط كانت مفيدة لضمان هياكل الدعم المالي والسياسي. كان الاتحاد الأوروبي أيضا حريصا بشكل دائم على البحث عن طرق للمساعدة، وتـعـد المرونة التي أبداها الاتحاد الأوروبي في مواجهة الاضطرابات الأخيرة في أيرلندا الشمالية، والتي ارتبطت بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، مثالا كلاسيكيا آخر على المساعدة الخارجية التي تعين الأطراف على التغلب على التوترات الداخلية. لا تخافوا من الغرباء إذن، بل استعينوا بهم.
يستلزم هذا بطبيعة الحال توافر مكون رابع، القيادة النموذجية. لم يكن السلام في أيرلندا الشمالية ليتحقق في غياب القيادة الناجحة. كان لزاما على القادة أن يكونوا على استعداد لإبلاغ مؤيديهم بحقائق غير مريحة، وتقبل النقد، وتحمل الاتهامات بالخيانة. مرة تلو الأخرة خلال العملية، أتت لحظات حيث كان التصرف الأسهل متعارضا مع التصرف السليم. لحسن الحظ، كان القادة راغبين ـ في تكلفة شخصية كبيرة في الأغلب ـ في سلوك الطريق السليم، وليس الطريق الأسهل.
خامسا، تكون العملية الناجحة أكثر ترجيحا إذا كان المشاركون فيها يتبادلون الثقة ببعضهم بعضا. نقول للطلاب دوما إن السياسة ممارسة شخصية، إنها عمل يهم الناس. نظرا إلى وجود عدد كبير من المشكلات العصيبة التي تنتظر الحل، ولأن سياسة كل شخص قد تشير في اتجاهات مختلفة، إن لم تكن معاكسة، فيجب أن تكون قادرا على إجراء محادثات مفتوحة، وصريحة، واستراتيجية.
هل يواجه شريكك في العملية مشكلة؟ يتعين عليك أن تنظر إليها من زاويته. ناقشا المشكلة واعملا معا على إيجاد الحل لها. قد يكون من الصعب تكوين صداقة، لكن إقامة شراكة ليست بالأمر الصعب.
سادسا، يتعين على الأطراف كافة أن تدرك أن الصراع كان ليفضي إلى أعمق حالة من انعدام الثقة. إن التوصل إلى اتفاق ليس كمثل بناء الثقة. فالأول يمثل عملية رسمية، في حين يـعـد الثاني ممارسة عاطفية. ينبغي لنا أن نعترف إذن بأن البحث عن طرق لبناء الثقة هو في حقيقة الأمر استثمار من شأنه أن يحقق أعلى الأرباح.
أخيرا، لا تستسلم أبدا. الواقع أن الناس يستهزئون بالسياسة، لأنهم عادة لا يرون سوى أقل تغيير في حياتهم اليومية. لكن لنرجع إلى الوراء لحظة. الواقع أن القسم الأعظم من التاريخ أشبه بلوحة انطباعية، ما يبدو وكأنه ضبابي عن قرب يكشف عن هيئته الحقيقية عندما ننظر إليه من مسافة.
بعد مرور 25 عاما، بوسعنا أن نرى أن اتفاق الجمعة العظيمة، يختم بلير، جلب تغييرا حقيقيا بعيد المدى. فكثير من الأحياء اليوم استفادوا منه. ليس من المهم ما إذا كانوا يدركون هذا أو يفكرون فيه. ما يهم حقا هو أنه تحقق.