سنغافورة: ليس لدينا أسرار .. لدينا فقط كلمة واحدة اسمها العمل
تحولت سنغافورة من جزيرة صغيرة، لا تزيد مساحتها على 710 كيلومترات في جنوب شرق آسيا (المرتبة 20 في قائمة الدول الأقل مساحة)، بلا موارد طبيعية ولا مؤهلات جغرافية، إلى معجزة اقتصادية عالمية، أضحت تجربتها الرائدة نموذجا لامعا، تحكى قصته عند كل حديث عن التجارب الملهمة في التغيير والتحول، بعد نجاحها خلال عقود قليلة، لا تتعدى أصابع اليد الواحدة، من الالتحاق بمصاف دول العالم الأول.
حكاية فريدة نسج خيوطها شعب من عرقيات مختلفة، لا يمتلك مقومات دولة ولا حتى أمة، بعد إعلانه الاستقلال عام 1965، في أعقاب طرده من الاتحاد الماليزي. كان يعيش على نشاط قاعدتين عسكريتين بريطانيتين، بتكلفة تفوق 100 مليون جنيه استرليني، حيث توفران 30 ألف فرصة عمل، أي ما يعادل 20 في المائة من الناتج القومي الإجمالي. ما دفع صحافيا بريطانيا في يومية الـ"صانداي تايمز" إلى رهن مستقبل البلاد بها، فكتب محذرا من "انهيار اقتصاد سنغافورة إذا ما تم إغلاق القواعد البريطانية".
لم يلق هذا التحذير آذانا صاغية عند السنغافوريين، رغم إدراكهم الجيد لحقائق التاريخ، فوطنهم ليس دولة طبيعية بل من صنع البشر، وتحديدا البريطانيين الذين نقلوها من محطة تجارية إلى مركز محوري في إمبراطورية التاج البريطاني البحرية العالمية، بل على النقيض من ذلك تماما، انقلب العائق محفزا دفع نحو التحدي والمغامرة، بالتأكيد على مركزية العنصر البشري في قلب المعادلات ضدا على قواعد التاريخ ومعطيات الواقع وتطور الأحداث، فهوامش التغيير دوما قائمة وما على الإنسان سوى حسن استغلالها.
الرأسمال البشري رهان الإقلاع
فضلا عن الفقر المدقع في الموارد الطبيعية، تفتقد سنغافورة إلى الانسجام في النسيج السكاني، فالخريطة العرقية غاية في التنوع، حيث يمثل الصينيون نحو 74 في المائة من الساكنين، تليهم اثنية المالايو 14 في المائة، متبوعين بالهنود بنحو 9 في المائة. انعكس التنوع الديموجرافي على معتقدات السنغافوريين، التي تتوزع بين البوذية (31 في المائة) واللادينية (20 في المائة) والمسيحية (19 في المائة) والإسلام (16 في المائة) والطاوية (8 في المائة) والهندوسية (5 في المائة)، معطيات وأخرى تهدد استمرارية وجود الدولة من أصله، فبالأحرى الحكم بالإقلاع من العالم الثالث إلى العالم الأول.
راهن رئيس الوزراء الراحل لي كوان يو، صانع نهضة سنغافورة، على ما توفر لديه من عناصر قليلة، وحرص على حسن استثمارها من أجل صنع المعجزة السنغافورية، فاستفاد من الموقع الاستراتيجي للبلد، الذي يعد مدخلا إلى مضيق ملقا، أكثر المناطق حيوية في العالم، لربطه بين أربعة من أكثر البلدان كثافة سكانية (الصين والهند واليابان وإندونيسيا). تفيد الأرقام بمرور نحو 35 في المائة من التجارة البحرية في العالم من خلاله، فهو مثلا المعبر الأساسي لتزويد كل من الصين واليابان بالنفط.
من جهة أخرى، حرص على قلب المعطى الديموجرافي من عائق إلى محفز على صناعة أمة موحدة، فعملية تجنيد الموارد البشرية، بذكاء وحنكة، كانت السر وراء نجاح تجربة سنغافورة. رغم ما رافق ذلك من انتقادات، كما ذكر لي في أكثر من حوار "كثيرا ما اتهمت بأنني أتدخل في الشؤون الخاصة بالمواطنين. وأنا لا أنكر هذا، ولو لم نفعل ذلك، لما كنا وصلنا إلى هذه المرحلة. ولولا تدخلنا في كل صغيرة وكبيرة من حياتهم، بداية من جيرانهم إلى عاداتهم وسلوكياتهم ولغتهم، لما حققنا هذا التقدم الاقتصادي. نحن نحدد ما هو الصواب".
تسعى الدولة إلى تحفيز الشعب على اتخاذ القرارات المناسبة، عبر إجراءات تشجيعية أو عن طريقة سياسات تدخلية لتوجيه السلوك، من قبيل كشف فواتير الكهرباء والغاز لاستهلاك جيرانك للمقارنة، وتشجيع الناس على اختيار البدائل الغذائية الصحية، مع حث الشركات العاملة في مجال الأغذية على توفيرها بأسعار معقولة، بعد شيوع ثقافة الأكل في المطاعم بين السنغافوريين (ستة من أصل عشرة)، بمعدل أربع مرات في الأسبوع. وبلغت سياسة التدخل، سعيا وراء الضبط والنظام، مستوى حظر مضغ العلكة في عموم البلد، وتغيير عدد الموالد للأسرة بحسب حاجيات الدولة، في السابقة اثنان فقط، وثلاثة أو أكثر بدءا من 2016، مع منحة مالية تصل إلى عشرة آلاف دولار.
يبرر صانع المعجزة السنغافورية اتساع نطاق تدخل الدولة في الشؤون العامة والحياة الخاصة للمواطنين، بكونه السر في نجاح البلاد "نحن نعلم أننا لو سرنا على نهج الدول المجاوزة سنموت، فنحن لا نملك شيئا بالمقارنة بما يمتلكونه من موارد. ولهذا ركزنا على إنتاج شيء مميز وأفضل مما لديهم، هو القضاء تماما على الفساد، والكفاءة، واختيار أصحاب المناصب والنفوذ بناء على الجدارة والاستحقاق.. وقد نجحنا".
ثمار النهضة المشهودة
كانت سنغافورة عند الاستقلال 1963 دولة متخلفة، نصف سكانها أميون مع نسبة عالية من الفقر المدقع ومعدل بطالة مرتفع (15 في المائة)، وناتج محلي إجمالي عند حدود 320 دولارا أمريكيا للفرد. وتشهد اليوم واحدا من أسرع الاقتصادات نموا في العالم، بناتج محلي إجمالي للفرد يصل إلى 60 ألف دولار أمريكي، ما بوأها المرتبة السادسة في قائمة أكبر معدل ناتج محلي للفرد في العالم، مع معدل بطالة عند حدود 2 في المائة فقط، وثالث أعلى معدل متوسط عمر متوقع في العالم برقم 83,7 عاما.
نحو نصف قرن من الكفاح، جعل البلد مجتمعا صناعيا فائقا، تلعب التجارة الوسيطة دورا محوريا في اقتصاده. ناهيك عن حفاظ ميناء سنغافورة على موقع الريادة ضمن الموانئ الأكثر ازدحاما في العالم، متجاوزا بذلك ميناءي هونج كونج وروتردام. ويعد حاليا ثاني أكبر ميناء من حيث حمولة البضائع المتداولة، بعد ميناء شنغهاي، بعائدات مالية تقدر بنحو تريليون دولار سنويا. ما حدا بالأب المؤسس إلى القول بأن "دولته دون الميناء ما كانت لتصل إلى نصف ما هي عليه".
نجحت "الدولة – المدينة"، وصف يطلق على سنغافورة، كونها بلا موارد ولا مساحة، في صناعة المعجزة الاقتصادية، بتمكنها من احتلال المرتبة الـ39 في قائمة أكبر الاقتصادات على مستوى العالم، بناتج تعدى 400 مليار دولار أمريكي. يؤكد فيليب مؤلف "الابتكار من الفكرة إلى النجاح.. قصة سنغافورة" أن المسألة بسيطة بلا وصفة سحرية، "ليس لدينا أسرار، لدينا فقط كلمة واحدة اسمها العمل، سنغافورة مبنية دون موارد على الإطلاق، لا يوجد سر، إنها كلمة بسيطة وهي العمل، العمل الجاد. والشيء الجيد أننا لا نملك موارد، الحقيقة أننا لا نمتلك موارد أو ثروات طبيعية، حتى إننا ليس لدينا أرض لزراعة غذائنا، كل شيء نأكله مستورد، 50 في المائة من المياه مستوردة، السر حافز الدافعية للعمل الجاد والبحث عن طرق لكسب العيش".
هذه القوة ما جعلت البلد في موقع الشريك التجاري 15 للولايات المتحدة الأمريكية، وأهله لاستقطاب أكثر من ثلاثة آلاف شركة من الشركات المتعددة الجنسيات للعمل في داخله، ضمنها أكثر من 700 شركة أمريكية تعمل في البلاد في مختلف المجالات. ونجحت سنغافورة أخيرا في احتلال المرتبة الثالثة، في مؤشر المراكز المالية العالمية، الصادر شهر سبتمبر 2022، خلف كل من نيويورك ولندن، لتكون بذلك الأولى على المدن الآسيوية باعتبارها أفضل مركز مالي في القارة.
تحتفظ سنغافورة بنقطة قوة قلما استرعت انتباه الباحثين في أسرار هذه المعجزة الاقتصادية، إنها سياسة الحياد غير الحاد في الدبلوماسية السنغافورية، فالسياسة الخارجية للبلد تتجه نحو دعم تسويات الصراع بطرق سلمية بعيدا عن السلاح والحروب. ما أتاح لها فرصة الحفاظ على مسافة أمان من الجميع، حيث شكلت علاقات متوازنة مع مختلف دول العالم.