عودة الساموراي .. من الحياد إلى التأثير

عودة الساموراي .. من الحياد إلى التأثير
عودة الساموراي .. من الحياد إلى التأثير

مثلت زيارة رئيس الوزراء الياباني، فوميو كيشيدا لأوكرانيا، في آذار (مارس) الماضي، منعطفا في السياسة الخارجية للبلد. فتاريخيا، لم يسبق لمسؤول حكومي رفيع المستوى في اليابان، أن زار منذ عام 1945 منطقة نزاع مسلح أو حرب. وزادت التعهدات التي أعقبت الزيارة، وعلى رأسها منح حزمة مساعدات مالية بقيمة 5.5 مليار دولار، من أهمية الواقعة، لكونها المرة الأولى التي تدعم فيها، وبهذه الطريقة، طرفا في نزاع مسلح.
تسعى اليابان، في الأعوام الأخيرة، إلى تغيير بوصلة سياستها الخارجية، من خلال التخلي عن قاعدة الحياد التي التزمتها منذ زمن الحرب العالمية الثانية، لمصلحة خيار التأثير والفعل في مسرح الأحداث العالمي. وتفسر ذلك بكون البيئة الجيوسياسية المحيطة بالبلد الآن، غير ما كان عليه الوضع في حقبة ما بعد الحرب. ما يجعل مراجعة قواعد اللعبة أمرا حتميا، مع ظهور قوى كبرى، ولا سيما الصين ثم الهند بدرجة أقل، تشكل بثقلها الإقليمي والدولي مصدر تهديد حقيقي للبلد.
خطوة جديدة نحو الناتو
تعززت تلك المساعي، قبل أيام بعد إعلان وزير الخارجية الياباني، يوشيماسا هاياشي، عن دخول بلاده في محادثات جدية مع حلف شمال الأطلسي، ترمي إلى فتح مكتب اتصال للناتو على الأراضي اليابانية، فالتدخل الروسي في أوكرانيا جعل عالم اليوم أكثر اضطرابا، ما حتم على اليابان إعادة التفكير بجدية في الأمن الإقليمي. فمن وجهة نظر الوزير "ما يحدث في أوروبا الشرقية، لا يقتصر فقط على القضية في أوروبا الشرقية، وهذا يؤثر بشكل مباشر في الوضع هنا بالمحيط الهادئ. لهذا السبب أصبح التعاون بيننا في شرق آسيا وحلف الناتو ذا أهمية متزايدة".
صحيح أن اليابان ليست عضوا في معاهدة الناتو، إلا أن فتح مكتب اتصال بها، مثلما كان عليه الحال مع أوكرانيا والنمسا، خطوة من شأنها أن تبعث رسائل لأكثر من دولة في المنطقة، مفادها أن شركاء الكتلة في آسيا والمحيط الهادئ ينخرطون بطريقة ثابتة للغاية مع الناتو. وكان ذلك جانبا من حديث الأمين العام لحلف الناتو، عند زيارته قاعدة "إيروما" التابعة لقوة الدفاع الجوية اليابانية، حيث دعا إلى إقامة علاقات أقوى بين الناتو وطوكيو، معتبرا بأن "المخاطر العالمية الناتجة عن الحرب الروسية - الأوكرانية تظهر أن أمننا مترابط بشكل وثيق".
انفتاح اليابان على الناتو ليس بالحدث الطارئ، فالبلد أقدم شريك للحلف من خارج القارة العجوز. يذكر أن الحوار الرسمي بين الطرفين انطلق في ثمانينيات القرن الماضي، وبالتحديد مع قمة ويليامزبرج، في 1983، التي أعلن خلالها بأن أمن المشاركين مسألة واحدة غير قابلة للتجزئة. ثم ارتقى، 2011، إلى مستوى الشراكة مع الحلف، لتصبح طوكيو قبل خمسة أعوام 2018 أول دولة آسيوية تنشئ بعثة دبلوماسية لدى الناتو، ويمنح وزيرها في الدفاع حق حضور اجتماع وزراء دفاع الحلف. مطلع العقد الجاري، خضع برنامج الشراكة للمراجعة، مؤكدا أن الجانبين "شريكان موثوقان يتقاسمان قيما مشتركة من الحرية والديمقراطية وسيادة القانون".
زمن الانحياز لا الحياد
بالموازاة مع التقرب من الناتو، تتحرك اليابان في دوائر أخرى بحثا عن مكانة في الساحة الدولية، فبدل سياسة التجنب التي طبعت السياسة الخارجية سابقا، شرعت أخيرا في الانخراط في مختلف الأزمات العالمية، فانضمت إلى قائمة الدول الغربية التي فرضت العقوبات على روسيا، عكس موقفها 2014، حين تحفظت على استخدام سلاح العقوبات ضد موسكو، بعد قرارها ضم شبه جزيرة القرم.
ودخلت في الآونة الأخيرة في منافسة استراتيجية شرسة مع الصين، بعدما أدركت أن التقلبات الدولية تستوجب أفعالا لا مجرد ردود أفعال، خاصة بعد شعورها بالغبن من جانب الصين، التي شيدت نهضتها بفضل التعاون والدعم التقني الياباني، قبل أن تتفوق عليه ابتداء من 2010 بعدما أضحت ثاني أكبر اقتصاد في العالم، فضلا عن تحولها إلى منافس لليابان في المجال التكنولوجي.
أخذا بالتأثر شرعت طوكيو في مزاحمة بكين داخل القارة الإفريقية، بالحرص على تنظيم القمم الإفريقية - اليابانية، وتقديم عروض تفضيلية بديلة للإقراض الصيني الذي تثار حول شبهات من إمكانية انقلابه إلى ما يعرف بدبلوماسية فخ الديون. فتعهدت اليابان مثلا في قمة تيكاد في تونس أواخر 2022 بإنفاق نحو 30 مليار دولار في القارة، فيما يشبه محاولة تطويق للصين بالقارة. فضلا عن التزامها بإعادة هيكلة ديون عدد من دول القارة السمراء، بحثا عن مزيد من الثقة لديها. وعزز انتخاب اليابان عضوا غير دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة من مساعي طوكيو، فهذا الموقع يمنحها إمكانية التوسط في بعض الأزمات على غرار الصين والدول الكبرى.
يبقى المجال العسكري أقوى الشواهد على عودة الساموراي، فبعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية وعد رئيس الوزراء بمضاعفة حصة الناتج المحلي الإجمالي المخصصة للأمن القومي إلى 2 في المائة. لقد جعلت الحرب تعزيز القدرات العسكرية، وجعل قوات الدفاع الذاتي في أقصى درجات الجاهزية مسألة مصيرية بالنسبة للحكومة اليابانية، لكون الرهان على الدعم الأمريكي لم يعد كافيا في ظل الاضطرابات العالمية.
واضح أن اليابان عازمة على استعادة أمجاد الماضي التليد في المجال العسكري، وأول المؤشرات على ذلك الحديث عن عزم طوكيو تحويل المنشأة العسكرية في جيبوتي، التي كانت بغرض مكافحة حوادث القرصنة المتزايدة في سواحل شمال شرق إفريقيا، إلى قاعدة عسكرية يابانية في إفريقيا، ما سيعطي البلد دورا أكبر في عمليات حفظ الأمن والسلام الدوليين، ويزاحم بكين في تدشينها لأول قاعدة عسكرية في إفريقيا ذاتها.

الأكثر قراءة